أصبحت رؤية المرضى النفسيين في الشوارع والطرقات أمراً مألوفاً في العديد من مدن المملكة، فبعض هؤلاء المرضى لهم سنوات وهم يعانون مع أزماتهم النفسية، ويقضون أغلب أوقاتهم هائمين مشردين بلا أهل لهم ولا مأوى، فيثيرون الرعب والخوف في نفوس المارة وخاصة الأطفال تارة، أو يؤذون أنفسهم تارة أخرى، وبعضهم يتخذون أسفل الجسور مراكز تجمع لهم بأجساد نحيلة تكسوها ملابس رثة، ويتلقون المساعدات النقدية، أو بعض المأكل والمشرب من المحسنين وفاعلي الخير، بينما يبحث بعضهم عن طعامه في حاويات الفنادق والمحلات التجارية.
وتتعدد الأسباب التي أدت إلى وصول هؤلاء المعتلين نفسياً إلى هذا الحال المزري، فهناك من يؤكد أن انتشار هذه الظاهرة كانت بسبب تقصير وزارتي الصحة والتنمية الاجتماعية في واجبهما تجاه تلك الفئة التي تحتاج إلى الرعاية الصحية والاحتواء وتقديم العون والمساعدة، وهناك من يقول إن الإفراط في تناول المخدرات أدى إلى هذه النتيجة السيئة، وآخرون يقولون إنهم مصابون بالمس أو السحر، إلا أن الجميع يتساءلون: لماذا يترك هؤلاء بتلك الحالة المزرية دون رعاية واهتمام؟ رغم أن هناك مستشفيات للأمراض العقلية والنفسية بالمملكة تأوي مثل هؤلاء المعتلين نفسياً، فلماذا يترك آخرون في الشوارع؟
«المدينة» تطرح القضية للنقاش، في محاولة لتسليط الضوء عليها وكشف أبعادها ومخاطرها على المجتمع.
ترصد قصص الهائمين
«المدينة» رصدت خلال جولتها بعض هؤلاء المرضى الهائمين والمشردين، وحاولنا التحدث معهم، فيقول أحدهم، ويبلغ من العمر (45) عاما إنه نتيجة للبطالة والمشاكل الأسرية وقع في أسر الظرف النفسي، حيث كان يقيم عند والديه مع شقيقه الأكبر، ويقول: بعد فترة من الزمن تم طردي من المنزل بعد أن عرفت عصابة مخدرات وتعاملت معهم من أجل الحصول على المال، الأمر الذي جعله يلجأ للإقامة في وسط الشارع بجوار مقبرة المعلاة، وأفاد أنه يضطر أحياناً إلى البحث عن الأكل وسط حاويات الفنادق لعدم توفر المال لديه، وعن مستوى تعليمه، قال: تركت الدراسة في أول متوسط لأني ما وجدت الدعم والتشجيع على مواصلة الدراسة بسبب كثرة المشاكل الأسرية وأصبح كل فرد من الأسرة يعيش وحده.
وتتواصل هذه المشاهد غير الحضارية ونحن نرى معتلا نفسياً آخر يركض من بداية سوق الجعفرية إلى نهاية شارع الغزة ذهابا وإيابا يتخيل أنه يقود دراجة هوائية ويمشي بتعرجات ويرتطم بالمارة وقد أطلق العنان لشعر ذقنه بصورة عشوائية وملابس متسخة، ثم يجلس على جانب الطريق تحت أشعة الشمس لدقائق معدودة ثم يقوم هائجاً بعمل حركات عدوانية ويتصرف كالمجنون، حيث بدرت منه حالة هيجان جعلته يعترض المارة ويحاول الاعتداء عليهم إلا أنهم لا يردون عليه.
وينام معتل ثالث أمام المحلات التجارية الواقعة خلف مقبرة المعلاة مفترشا الأرض وملتحفا بطانية، وهو ضخم البنية وطويل اللحية في الوقت الذي قال فيه أصحاب تلك المحلات إنهم لا يعرفون عنه شيئا، فهو يمضي فترات طويلة ثم يختفي قبل أن يعود مرة أخرى إلى موقعه، لافتين إلى أنه ظل على هذه الحال منذ 15 عاما، وعندما اقتربنا منه لمحاولة عمل لقاء معه شعر بنا ولاذ بالفرار، ثم مالبث أن عاد مرة أخرى إلى نفس المكان طالباً من المارة مساعدات نقدية.
د.السهلي: قنابل موقوتة تروع الآمنين
يقول الداعية الدكتور محمد بن مطر السهلي: إن المعتلين نفسيا يشكلون خطراً على المجتمع وقنابل موقوتة قد تساهم في ترويع الآمنين، قد تزايدت في الآونة الأخيرة وبشكل ملحوظ أعداد هؤلاء المرضى ولا يزال يعانون أوضاعًا متردية وواقعا مريرا، وبات المشهد في مكة المكرمة مألوفًا نتيجة تزايد أعدادهم، حتى وصل الأمر إلى عجز أسرهم والجهات المعنية عن احتوائهم، كما لم يكن أمامهم سوى مواجهة مصيرهم المحتوم في أنحاء متفرقة من الشوارع والأحياء، هائمين مشردين، يتصرفون بلا وعي أو شعور، فعرفوا بملابسهم الرثة، وهيئتهم المهملة، متخذين من أسفل الكباري وفوق الأرصفة والأماكن المهجورة والأزقة الضيقة وسفوح الجبال ملجأ لهم دون تدخل أسرهم أو الجهات المسؤولة عن مراقبتهم والحفاظ عليهم للحد من انتشار الظاهرة، وهؤلاء المرضى المشردين بالشوارع يصنفون عند الفقهاء من فاقدي الأهلية التي تتكون من العقل والإدراك مهما اختلفت الأسباب التي أدت إلى فقدانهم للأهلية ويدخل المرضى نفسياً تحت مسؤولية ولاية الجهات الرسمية، وأما إذا كان لديهم أقارب فأنهم ملزمون شرعاً بأحتواءهم والاهتمام بحالتهم الصحية وعدم تركهم مفلتين بالشوارع، كما أن هؤلاء المرضى لهم حقوق شرعية بالمحافظة عليهم لأن القاعدة الشرعية تطالب بإزالة الضرر وهؤلاء يشكلون ضررا بالمجتمع فمن واجب الجهات الرسمية ممثلاً في وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية بإزالة هذا الضرر قبل أن يتفاقم الوضع وأن تقوم بتجميع هؤلاء المعتلين في مكان واحد رأفة ورحمة بحالهم لأن ذلك قد يساهم في حال توفرت لهم الأجواء المناسبة في استقرار نفسيتهم لأن الأصل في الإنسان هو الاستواء.
عبدالمنان: شخصية المعتل نفسيا خطيرة ومعقدة
أوضح أستاذ الإرشاد النفسي بجامعة أم القرى الدكتور عبدالمنان ملا معمور بار أن قضية المعتلين نفسياً والمشردين بالشوارع ليست ظاهرة بل أنها مشكلة محدودة في المجتمع وليست محصورة على المواطنين فقط بل هناك مقيمون أيضا يعانون من نفس المشكلة، وليست هناك أسباب نفسية عضوية أدت إلى تشريد هؤلاء الأشخاص في الشوارع، بل هناك ظروف خارجية مجتمعية أخرى ساهمت في تفاقم الأزمة، وتعد شخصية المعتل نفسيًا هي باختصار أكثر الشخصيات خطورة وتعقيداً وصعوبة في التعرف على صاحبها، حيث أن المعتل نفسياً يجيد تمثيل دور إنسان عاقل، كما أن له القدرة على التأثير بالآخرين والتلاعب بأفكارهم، ويتلذذ بإلحاق الأذى بمن هم في محيطه، وتجد حياته شديدة الاضطراب ومليئة بتجارب الفشل والتخبط والأفعال اللأخلاقية، وقد يصل سلوكه إلى ارتكاب جرائم أمنية.
اختصاصي اجتماعي: احتواء هؤلاء مسؤولية المجتمع المدني
من جهة أخرى أوضح الاختصاصي الاجتماعي جابر الفاهمي مساعد مدير مركز التأهيل الشامل بمكة المكرمة، أن من أصعب المشكلات أو النكبات أن يصبح أحد أفراد الأسرة مريضًا نفسيًا وخاصة إذا تجاوز عمره ١٢ عاما، مما يصعب على الأسرة السيطرة عليه لعدم إدراكها بفن التعامل مع المرضى النفسيين وبالتالي يخرجون للمجتمع في الميادين العامة بشكل لا يليق ببلد الحرمين.
وأشار الفاهمي إلى أن العلاج ليس من مسؤولية الجهاز الأمني فقط وإنما المجتمع المدني كاملاً، فلا بد أن يكون هناك فريق متكامل مكون من نفسيين واجتماعيين وأطباء لرعاية هؤلاء المرضى وإيوائهم.
الزايدي: يشكلون خطراً على أنفسهم وعلى غيرهم
وأكد المشرف على فرع الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بمنطقة مكة المكرمة سليمان بن عواض الزايدي، أنه سبق لفرع الجمعية الوطنية أن رصدت انتشار بعض المعتلين نفسياً بشوارع مكة المكرمة والكتابة لوزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الصّحة، منبها على أنهم يحتاجون إلى الرّعاية الصحية والاجتماعية وأنهم بوضعهم الحالي المهمل يشكلون خطراً على أنفسهم وعلى الغير، وطالبت الجمعية بخطابات وتقارير رسمية موجهة للوزارتين بضرورة معالجة وضع هؤلاء الفاقدين للأهلية، المشردين في الشوارع والعمل على سرعة نقلهم إلى المصحات أو الدور المناسبة لحالاتهم، لكن لم يتم التجاوب مع ملاحظات الجمعية، وبقي الحال كما هو حتى أقدم أحد المعتلين نفسياً بالأمس كما جاء في تصريح الناطق الإعلامي للقوة الخاصة بالمسجد الحرام، وحاول إحراق نفسه في صحن المطاف يؤكد على الخطر الذي يمكن أن يصدر عن هؤلاء كما يؤكد حاجتهم إلى الرّعاية الصحية والاجتماعية من قبل أسرهم وجهات الاختصاص. وأضاف: أن الجمعية طالبت فيها وزارة الصحة بمتابعة وضع المعتلين نفسيا ونقلهم من شوارع مكة المكرمة خاصة في المنطقة المحيطة بالحرم وبمقبرة المعلاة إلى المصحات المناسبة والدور المناسبة لوضعهم حفاظاً على سلامتهم وسلامة الآخرين لاتزال قائمة مما يحتم على جهات الاختصاص سرعة حصر المعتلين نفسياً في الشوارع وتقديم الرعاية المناسبة لهم.
البار: مستشفى مستقل للصحة النفسية بمكة قريبا
فيما أوضح مدير الصحة النفسية بمنطقة مكة المكرمة الدكتور طارق البار أن هناك مشروعات صحية سوف يتم تنفيذها في القريب العاجل ضمن خطط وبرامج وزارة الصحة ومن ضمنها مستشفى مستقل للصحة النفسية بالعاصمة المقدسة، وأكد أنه لا يستطيع أن يطلق على المشردين بشوارع وأحياء المنطقة بالمرضى النفسيين حتى يتم الكشف عليه وتحديد نوع المرض من قبل الطبيب، وأضاف أن المسؤولية مشتركة لمتابعة واحتواء هؤلاء المرضى بين أسرهم ووزارة الصحة والتنمية الاجتماعية ولا نستطيع أن نحمل جهة معينة لوحدها، وأهاب بأسر وذوي المرضى النفسيين بعدم ترك مرضاهم يهيمون في الشوارع دون رعاية.
محام: «الصحة» مسؤولة عن إيواء المرضى النفسيين في أماكن تناسبهم
أكد المحامي عوض الحارثي أن الرعاية الاجتماعية في المملكة لم تقتصر على الأفراد العاجزين والمحرومين، بل تعدت ذلك إلى المحافظة على المجتمع بصورة عامة، فقامت بإنشاء برامج للتوعية والإرشاد الاجتماعي التي تصب في صالح القيم والروابط الاجتماعية النبيلة، مشدداً على أن دور الجهات الرسمية المتعاملة مع هذه الفئات من المجتمع يختلف حسب حالة هذا المشرد كونه لا يجد رعاية ولا مأوى، فهؤلاء يتم تقديم الرعاية والمأوى لهم من قبل الشؤون الاجتماعية وهذا هو دورها الرسمي حول هؤلاء المشردين، مشيرا إلى أن وزارة الصحة مسؤولة عن إيواء ورعاية المرضى النفسيين وإيوائهم في أماكن إيواء تتناسب مع حالاتهم الصحية.
مرضى نفسيون بــــــلا مستشفيات.. قنابل تنتظر نزع الفتيل
تاريخ النشر: 18 فبراير 2017 03:10 KSA
A A