نعم.. هذا العنوانُ كانَ صرخةً أطلقتُها حزنًا وأسىً، ومن أعماقِي، وأنا أستمعُ إلى ما وردَ في حديثِ أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، بعد رعايتِه لحفلِ تخريجِ دفعةٍ من مجنَّدي الخدمةِ الوطنيَّةِ.. وصدقتْ صحفُنا المحليَّة حينمَا وصفتْ ذلكَ «بشقِّ الصفِّ.. والتخبُّطِ»، وغيرَها من الصفاتِ والنعوتِ الصادمةِ والفاجعةِ.
لم نكنْ نتوقَّع أن يحملَ حديثُ أمير قطر كلَّ هذه المفاجآتِ المخيفة، «فإيران دولةٌ كُبرَى تضمنُ الاستقرارَ في المنطقةِ»، والعالمُ كلّه أَجْمَعَ اليومَ على أنَّها أهمُّ مزعزعٍ لاستقرارِ المنطقةِ، كما تحدَّث بذلكَ العديدُ من قادةِ الدولِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، والرئيسُ الأمريكيُّ في قمَّةِ الرياض. «وحركةُ حماس هِي الممثِّلُ الشرعيُّ للشعبِ الفلسطينيِّ»، وهو وصفٌ يبتعدُ كليَّةً حتَّى عن اتِّفاق الفلسطينيين أنفسهم، من أنَّ ممثلَهم الشرعيَّ هو منظمةُ التحريرِ الفلسطينيَّةِ، وطامَّة أخْرَى «حزب الله» اللبنانيّ، وهو خادمُ إيران المطيعُ، «ليسَ إرهابيًّا، بلْ مقاومةٌ»، وكلُّ العالم عدَا إيرانَ وأذنابَها «النظام السوريّ والمليشيات المذهبيَّة المتطرِّفة»، يرونَ ويقرِّرونَ، وتمَّ اعتمادُه في مجلسِ الأمنِ أنَّه حزبٌ إرهابيٌّ، وخيرُ دليل جرائمُه التي يقومُ بها في سوريا، إلاَّ إنْ كانتْ سوريا أرضَ مقاومةٍ ضدَّ العدو الإسرائيليِّ، وساحاتُها مجالَ صراعٍ معه!.
من أولوياتِ السياسةِ والعلاقاتِ الدوليَّةِ، التعقُّل في كلِّ شيءٍ، والحذرُ كلَّ الحذرِ في الانفعالِ، والتصاريحِ المنفلتةِ، وغير المنضبطةِ، فمن غيرِ المعقولِ التعالِي على الآخرِين، خاصَّةً إنْ كانَ حجمُ الذاتِ صغيرًا مكانًا، ومكانةً، وتأثيرًا. ومن بابِ المسلَّماتِ السياسيَّةِ أيضًا أنَّ مَن يودُّ إقامةَ علاقاتٍ مشتركةٍ مع الآخرين، فعليهِ أولاً الاعترافُ بحقوقِهم، ومصالحِهم الذاتيَّة، وعدمُ الانجرارِ خلفَ أيديولوجياتٍ ضيِّقةٍ، أو مصالحَ منغلقةٍ، وعدم التحزُّبِ والاصطفافِ لهذا الفصيلِ أو ذاك.
حديثُ أمير قطر فوقَ انفعالِه وخروجِه عن إجماعِ دولِ مجلسِ التعاونِ، والدولِ العربيَّةِ الكُبرَى، فهو يحملُ «تهديدًا» للرئيسِ الأمريكيِّ دونالد ترامب بأنَّ استمراريتَّه في رئاسةِ الولاياتِ المتَّحدةِ الأمريكيَّةِ لن تطولَ؛ «بسببِ التحقيقاتِ العدليَّةِ تجاه مخالفاتِ وتجاوزاتِ ترامب»، وهذَا فوقَ أنَّه يتخطَّى حقائقَ كثيرةً، سطحيُّ النظرةِ لمَا يدورُ في أروقةِ المؤسَّساتِ الأمريكيَّةِ المعنيَّةِ بالحكمِ داخل أراضِيهَا.
وأمَّا كارثةُ الكوارثِ، فهو الغمزُ واللمزُ، ورمي اتِّهاماتٍ ضدَّ دولٍ وحكوماتٍ مجاورةٍ لقطر، حيثُ يتصوَّر الأميرُ: «أنَّ الخطرَ الحقيقيَّ هو سلوكُ بعضِ الحكوماتِ التي سبَّبت الإرهابَ بتبنِّيها لنسخةٍ متطرِّفةٍ من الإسلامِ، لا تمثِّل حقيقتَهُ السمحة، ولم تستطعْ مواجهتَهُ سوى بإصدارِ تصنيفاتٍ تُجرِّم كلَّ نشاطٍ عادلٍ». فهل هكذَا حديث يمكنُ أن يكونَ وسيلةً لفهمٍ مشتركٍ بين دولٍ شقيقةٍ وصديقةٍ ومتحالفةٍ؟!
الحكمةُ تتطلَّبُ أنْ تعيدَ قطرُ حساباتِها فيما يتعلَّق بمصالحِها، وعلاقاتِها مع جوارها العربيِّ، وهو العمقُ الحقيقيُّ لها، بعيدًا عن الانفعالاتِ واللا عقلانيَّةِ، بعيدًا عن الاصطفافِ إلى مَن اتَّفقَ العالمُ كلُّه على أنَّهم رعاةُ إرهابٍ (إيران)، وإرهابيُّون (حزب الله)؛ لأنَّ غيرَ ذلك ليسَ سوَى انتحارٍ سياسيٍّ.