مع قدوم الحج كل عام تبدأ حيلة اختلاق الأزمة الموسمية المكشوفة، فترتفع نفس الأصوات المختنقة بالحقد لتنتقص من قدرات المملكة العربية السعودية على إدارة الحشود، أو على حماية الحجاج والحرمين، أو على تقديم خدمة ما أو أخرى، أو لتروج كذبة منع حجاج من أداء الفريضة. كل هذا الكلام المتكرر حد الغثيان لا يستند إلى دليل واحد كما يفتقر إلى بصيرة العقل وحكمة المنطق.
ومن ثم نسمع من يتنطع ويطالب بمقترح تدويل المشاعر المقدسة على نمط الفاتيكان، وكأنه يستنجد بمثال قائم يجوز له اتباعه بسهولة وتطبيق نظامه. أطروحة التدويل التي اختصت بها إيران، وأوعزت بها إلى قطر مؤخرًا فبغبغت بها، لا علاقة لها بالنموذج الفاتيكاني. ما تطمح إليه إيران هو الوصول إلى هذه المنطقة المقدسة لتوسيع خريطة التشيع الإيراني تحت ولاية الفقيه.
أولًا، الفاتيكان لم يكن أرضًا مقدسة حتى تتم مقارنته بمكة المكرمة والمدينة المنورة، والمكان في إيطاليا أبعد ما يكون عن موضع الرسالة المسيحية وخروج عيسى عليه السلام. يقول تاريخ اصطناع هذا المكان أن القديس بطرس، أحد تلاميذ النبي عيسى الاثني عشر، قد وصل إلى روما في عهد الامبراطور نيرون الذي قام بذبحه في عام 64 بعد الميلاد، كما ذبح الكثير من المسيحيين. وبعد مضي 300 عام على مقتله، أقيمت كاتدرائية على ضريحه في 324، ثم بدأ تبجيله وزيارته من قبل الكاثوليكيين. المكان إذًا لم يكن مقدسًا في ذاته بل بالأفراد القائمين عليه، والدليل على ذلك أن المحكمة البابوية حين انتقلت إلى فرنسا في عام 1309 هجر رجال الكنيسة هذا الموقع حتى عودتهم في 1377، فلم يرتاده أحد لصلاة أو زيارة، فهو مجرد مدفن لقدّيس، وإن كان كثير من المؤرخين والمسيحيين من غير الكاثوليكيين يشككون في صحة حضور بطرس إلى روما من أصله.
هل تدويل الفاتيكان يعني أن يشترك في إدارته ترابط دولي كملكية مشاعة تحت الشرعية الدولية، كما تطمح إليه إيران في تدويل المشاعر المقدسة؟ مطلقًا، فتدويل الفاتيكان هو في واقع الأمر قبول هذه المنطقة الصغيرة المقتطعة من إيطاليا كدولة مستقلة في الأمم المتحدة يديرها الحكم البابوي منفردًا. ليس هناك دولًا تتداول التحكم في شؤون الفاتيكان، بل إن البابوية قد وقعت اتفاقية لاتيران للانفصال عن إيطاليا في عام 1929، ليس لأن باقي الدول المسيحية اتهمت إيطاليا بعدم القدرة على تنظيم أمور الفاتيكان وأرادت المشاركة في إدارته، بل لأن التكتل الديني داخل إيطاليا سعى بقوة إلى الاستقلال عن حكم الدولة الإيطالية ليتم تمكين البابا، كحاكم منفرد للفاتيكان، من ممارسة سلطاته الدينية على العالم.
الفاتيكان الإسلامي فكرة خبيثة تستمد شرعيتها من مثال معترف به دوليًا، لكنها تتغافل عنوة عن الاختلافات الشاسعة بين الاطروحة والنموذج. مساحة الفاتيكان لا ترقى بها إلى أن تكون مدينة متكاملة، ناهيك عن دولة، ولكنها أبشع نموذج متكامل للتسييس الديني، فهي دولة بلا مدن ولا أراضٍ ولا شعب ولا جيش، تتوسل الدين لتضمن للبابا حضورًا سياسيًا واقتصاديًا على الصعيد الدولي. وفي المقابل، فإن مكة والمدينة جزء لا يتجزأ من دولة متكاملة، وهما مأهولتان بملايين من السكان السعوديين المرتبطين بالأمكنة المقدسة على أرض وطنهم السعودي.
إن مطالبة إيران بالتدويل لا تتعدى كونها ابتزازًا سياسيًا وورقة مناكفة سخيفة تلوّح بها كلما ازداد غيظها من نجاحات المملكة المبهرة والبارزة عامًا بعد عام. وإذا كانت إيران مقتنعة بهذه الأطروحة، أي أن الموقع المقدس حق مشاع لكل تابع له، فلتسمعنا صوتها النشاز وتطالب بتدويل القدس التي ترزح تحت سيطرة الاستعمار الصهيوني منفردًا، وهو موقع ديني مقدس يحج إليه اليهودي والمسيحي والمسلم.