من عاصر ذلك الزمن، وعاشه بوعي، يدرك جيدًا كيف كُنَّا؟ وإلى ماذا وصلنا؟ ولماذا نريد الخروج من تلك المنطقة المظلمة التي عشنا فيها بعد ذلك التاريخ الذي أرخى سدوله القاتمة على حياتنا طيلة «38» عامًا، إذا اعتبرنا أن هذا العام يُشكِّل خروجًا كاملًا من بوابة الظلمات إلى مساحات الضوء الغامر بقراراتٍ نهضوية حازمة، كقيادة المرأة السيارة، والتصريح بإنشاء دور السينما؟
كانت السينما متاحةً ومباحةً، وبإمكان أي أسرة استئجار جهاز عرض الأفلام مع فيلم أو فيلمين حسب وصول الأفلام الحديثة وإمكانات الأسر، لمشاهدة الفيلم في تجمُّع أُسري أو عائلي أو في مناسبة زفاف نهاري مثل «الصبحة» التي يقيمها أهل العريس احتفاءً بالعروس، أو حتى بدون مناسبة فقط للترفيه.
يُطلق على جهاز العرض (ماكينة السينما)، أما شاشة العرض فكانت توفِّرها ربة البيت، ملاءة بيضاء كبيرة تُدَق بمسامير في جدار الغرفة، والجميع مُتحفِّز في انتظار إطفاء الضوء ومشاهدة الشعاع المنطلق من جهاز العرض يبث تشويشه، غير منضبطًا في البداية، ثم يتم تعديل الإرسال لتتوسَّط الصورة الشاشة، وتهدأ الأصوات، والأعين مفتوحة، والآذان مشرعة، وطائر الصمت مُحلِّق في الأرجاء، إلا صوت الأنفاس المتلاحقة تلاحق أحداث الفيلم، تنصت للموسيقى التصويرية والحوار والمؤثرات الصوتية المبهرة.
لا أذكر التاريخ تمامًا لكنه قبل عام 1979م كانت تُعرض السينما في فندق العطاس في الكندرة، كُنَّا نتناول عشاءنا على المسبح حتى يحين وقت عرض الفيلم بعد حجز التذاكر، وقاعة عرض في فندق العطاس بأبحر، بعض السفارات تعرض أفلامًا نهاية الأسبوع، والجمعيات الخيرية كانت تعرض فيلمًا كل أربعاء للنساء، أعتقد أن قيمة تذكرة الدخول «10» ريالات، كان مكانًا لتجمُّع الصديقات والزميلات قبل العرض، نأتي مبكرات، ونغادر بعد العرض مباشرة، لم نكن نتأخَّر عن العودة إلى منازلنا، كُنَّا شابات صغيرات ولدينا أطفال ومسؤوليات دراسة وعمل، بيت وزوج، كانت تلك المتعة تدعمنا بطاقة إيجابية طوال الأسبوع، لنُعاود مشاهدة فيلم الأسبوع التالي إذا تحمَّسنا له، ويتم الاتفاق فيما بيننا قبل المغادرة.
ذلك الزمن، يمكننا أن نطلق عليه «الزمن الجميل»، كما يطلق على زمن «أم كلثوم، عبدالوهاب، عبدالحليم حافظ، نجاة الصغيرة، فيروز، صباح، فايزة أحمد، ووردة الجزائرية» أما أبطال زماننا الجميل، «فاتن حمامة، عمر الشريف، هند رستم، زبيدة ثروت، صلاح ذوالفقار، أحمد مظهر، نجلاء فتحي، نبيلة عبيد، ناهد شريف، وأُخريات وآخرين» فليس هذا مجال حصر، بل مجرد أمثلة على ذلك الزمان.
قرار إصدار تصاريح دُور السينما هو تأكيد خروجنا من النفق المظلم، وأن تلك الفترة المظلمة من حياتنا لم تُطفئ شعلة الزمن الذي مضى قبلها في ذاكرتنا الجمعية، مهما عبث العمر بها، وتوقف تدفق الذكريات الجميلة فيها، أو أن الذاكرة انتعشت عندما عادت الأمور إلى مسارها بعد أن خرجت قاطرتها عن قضبانها 38 عامًا.
عندما سألتني مذيعة إذاعة الـ»BBC» عن قصة بث أغاني أم كلثوم على قناة الثقافية، قلت لها: إن الأمر بالنسبة لي ليس غريبًا ولا جديدًا، ولكننا نستعيد طبيعتنا، ونسترد بشريتنا، ونعود لإنسانيتنا؛ لأن التلفزيون كان يبث أغاني سميرة توفيق وهيام يونس ونجاح سلام على ما أذكر، لم تُصدِّق، سألتني: هل عشتِ هذه الفترة؟
لم أخبرها أننا خرجنا من مستنقع عام 1979م، وبدأنا نضع أقدامنا على عتبة العالم الذي كُنَّا نُدفع بعيدًا عنه باسم الدين الذي كُنَّا نعيشه قبل ذلك العام بكل قِيمه وتعاليمه دون محاضرات، أو دعاة وداعيات حرَّموا علينا كل شيء حتى البهجة.. وللحديث بقية!
قبل 1979.. في بيتنا سينما
تاريخ النشر: 20 ديسمبر 2017 01:19 KSA
قرار إصدار تصاريح دُور السينما هو تأكيد خروجنا من النفق المظلم، وأن تلك الفترة المظلمة من حياتنا لم تُطفئ شعلة الزمن الذي مضى قبلها في ذاكرتنا الجمعية مهما عبث العمر بها، وتوقف تدفق الذكريات الجميلة فيها
A A