يدهش بعض الناس للجبال، فيكتبون عنها القصائد، ويلتقطون لها وتشكيلاتِها الصورَ الفتوغرافية، ويستظهرون مسمياتها ومواقعها، ولا أراني إلا منهم. الجبال آية من آيات الله، تسبّح بحمده، وقد جعلها للأرض أوتادًا، وأقسمَ بها، وعرض عليها الأمانة، وكانت مُتَحَنَّثًا وملجأً وحاميةً لرسول البشرية صلى الله عليه وسلم. الجبال ذُكرت في القرآن الكريم مقرونة بقصص بعض الأنبياء، وذُكرت في معرض الحديث عن القدرة الإلهية، وعن بعض الأمم البائدة، وعن بعض وقائع الدنيا وأهوال الآخرة. أجزم أن الاحتفاء بالجبال وتكرارها في القرآن الكريم ما جاء إلا دلالة على عظمتها وأهميتها، ومن هذا المنطلق تغدو جديرة بالتأمل فيها، والتفكر في انتصابها وصمتها وصمودها طوال الدهور، خصوصًا والتفكر عبادة عظيمة ترجح بكثير من العبادات المحسوسة ، حتى سُمع عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم قولهم «إن ضياء الإيمان من التفكر»، وقال الحسن البصري رحمه الله «تَفكُّر ساعة خير من قيام ليلة». وكون الإنسان أحاسيس ومشاعر، فهو يحتار أمام ارتفاع السموات، ويدهش لشموخ الجبال، ويعجب من اتساع الصحراء، ويذهل لامتداد البحر، ولذا كنت ومازلت شديد الدهشة بالجبال عامة (والتهامية الشاهقة) خاصة؛ كونها -أي التهامية- يمكن استظهارها من جوانبها كافة، وكونها مستقلة فتتفرد بجمالها وهيبتها، وكونها حين تلثم السحاب تبدو جلية للعين وبشكل بديع. من هذا المنطلق كتبتُ قصائد وأبياتًا في بعض الجبال التهامية، ولعلني توقفت على حالة الوصف لبعضها، دون التخطي لاستنطاقها كما فعل الشاعر الأندلسي ابن خفاجة حينما عمد لأنسنة الجبل فجعل منه إنسانًا ينطق فقال:
أصختُ إليهِ وهو أخرس صَامتٌ
فحدثَني ليل السُّرَى بالعجائبِ
من الجبال التي وصفتُها جبل «شَدا الأعلى» في محافظة المخواة بمنطقة الباحة، فقلت فيه:
فَوْقَ هَامِ السُّحْبِ ذَا الطَّوْدُ بَدَا
سَابِحًا فِي الأُفْقِ.. والْكَوْنُ شَدَا
تحْتَهُ دُنْيَا.. وفِي أَكْنَافِهِ
وُلِدَ التَّارِيخُ مُذْ كَانَ «شَدَا»
ومنها جبل «ظَلْمَان» بمحافظة العُرضيات أقصى جنوب منطقة مكة المكرمة حين قلت:
متطاوِلٌ.. ولهُ السحابُ عمامةٌ
وعليهِ من حُلَلِ البهاءِ دِثارُ
طافتْ عليهِ النائباتُ على المَدى
فَعَلاهُ من عِبَرِ الزمانِ وَقارُ
«ظَلْمانُ».. وابتهجتْ تِهامةُ وانْثنى
«تَوْبادُ» في نجدِ العرارِ يَغارُ
ومنها جبل «صَفَا» بمحافظة العُرضيات أيضًا، وفيه قلتُ:
ويَسمو «صَفَا» في الخافقَينِ وإنهُ
مدى الدهرِ مفتونٌ بهمسِ الكواكبِ
له في جبينِ الفخرِ وشْمٌ مؤصَّلٌ
وللمجدِ في جنبيهِ مغنًى لطالبِ
تمرُّ الليالي لا يُبالي بعصفِها
يجاهدُ لثْمَ السُّحْبِ في صبرِ راهبِ
وليس انتهاءً بجبل «رَيْمَان» في مركز قَنَا بمحافظة محايل بمنطقة عسير حينما قلت:
مَتى مَا بَدا «رَيْمَانُ» جالتْ بخاطِرِي
تصاريفُ ذِكْرى واحْتَوَتْني مشاعِري
تَقولُ دَعِ الأشعارَ.. ما أنتَ قيسَها
ولا هِيَ لَيلَى.. في قَنَا ألفُ شاعِرِ
كثيرة هي الجبال التي تستحق التأمل والتفكر، وكتابة القصائد فيها، وخاصة التهامية منها؛ للأسباب السالف ذكرها. ما أريد التأكيد عليه هو أن النظر إلى الجبال وشموخها والتفكر فيها، والتعبير عن ذلك شِعرًا ليس من قَبيل الفضول؛ وإنما هو عبادة مأمورون بها بدليل قوله تعالى «... وإلى الجبال كيف نُصِبت»، وقد قال السعدي رحمه الله: «التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفِين». وعليه ففي الجبال الكثير الكثير مما يغري بتأملها والتفكر فيها ووصفها، ولذا أجبتُ من يسأل عن سر دهشتي بالجبال وغيرها بقولي:
يقولونَ لا تذهبْ بِعينيْكَ في السَّمَا
ولا في فِجَاجِ الأرضِ أو في جبالِها
وكُن مِثلَ باقي الناسِ تَمضي فما تَرى
بِذا الكونِ آياتٍ.. وليستْ بِبالِها
فقلتُ دَعوني أعبُدُ اللهَ حينَما
أُقلِّبُ طَرْفِي مُفْكِرًا في جَلالِها.