النادي الأدبي بالطائف .. والوفاء للرواد
تتسامى القيم وترتقي بالأرواح لتعانق عُباب السماء ؛ ذلك عندما تكون واقعاً يُمثل جزءاً من ثقافة المجتمع الذي تحكمه ، وتُسيطر على مُجريات حياته ـ قولاً وعملاً ـ ، وتُحدد بمحدِدات صارمة سلوكيات أفراده الذين يتعاطون أبجدياتها ؛ لتعكس لنا آليِّات عمل راقية في التعامل ، وثقافة نخبوية نزلت من بُرجها العاجي ـ المُتهمة به دوماً ـ لتعزف سيمفونية الوفاء لرجال صنعوا تاريخ الثقافة في أزمنة كانت الإمكانيات بدائية لا تتساوق مع القدرات العالية التي تكتنزها عقولهم ، ولكن الإرادة عندما ترتكز شامخة لتحقيق الذات ، مُستلهمة مسئوليتها الاجتماعية تتكسر على أعتابها كل المعوقات التي تعترضها ، وتصنع من المُستحيل حاضراً واعياً لمفارقاته ، وتتطلع لرسم خارطة طريق لمستقبلها بكل مُتغيراته وتقلباته المفاجئة بهدف إيصال ثقافة الزمان إلى كل مكان .
تقافزت هذه المُقدمة في مُخيلتي وأنا جاثٍ على مقعدي متابعاً للحفل الذي أقامه النادي الأدبي في الطائف تكريماً لمؤسسيه ورواده الذين تعاقبوا على خدمة الثقافة في مدينة الورد من خلاله على مدى أربعة عقود من الزمان خلت ، وأحسستُ أن نشوةً ما تسللت إلى ذاتي ، وبدأتْ تُحلِّق بي فوق هامات جبال الهدا ـ موقع الحفل ـ وتدفعني للتمتمة بما يختلج في قلبي من حبور تجاه أرباب الثقافة وأساطين الفكر الذين تجاوزا حدود التأطير ؛ رغبة منهم في تأصيل مفهوم الثقافة بمدلولها الإنساني الشامل الذي ـ حتماً ـ لا يتوقف عند إقامة فعالية ، أو طباعة مُنتج ، أو إصدار كتاب ، بقدر ما تُمثل إضافة إلى هذا كله إسداء الشكر وجزيل التقدير لمن ساهم في ترسيخ مبادئها ، وتحريك الراكد في شرايينها ، وضخ الدماء في أوردتها .
لقد كانت ليلة غاب قمرها واستعضنا بقمر الثقافة بديلاً عنه ، وأضاء القلوب بهجة وسروراً ، وأضاء المكان حباً ووفاء ، تحدث حمد الزيد ـ أول رئيس للنادي ـ فجال بنا في ذكريات الماضي ، وأسبغ علينا بلغة الشكر بعضاً من إسقاطاته ، وأعقبه عريس الحفل ـ بدون عروس طبعاً ـ حمَّاد السالمي واستعرض الكثير من الُمحفزِّات التي دفعت بالنادي إلى صدارة الأندية الفاعلة في مُحيطها ، وحمَّاد ـ للأمانة ـ مُهندسها العامل بصمت الكبار ، وجاء الصوت النسائي هذه المرة أمام الجميع بعد أن أعاده الملك عبد الله ـ يحفظه الله ـ إلى مكانه الطبيعي بعد سنوات من الإقصاء البغيض ، حيث ألقت الدكتورة لطيفة العدواني كلمة مثقفي ومثقفات الطائف واستطاعت بمرجعيتها التاريخية أن ترتحل بنا في سراديبه العميقة حتى حطت رحالها على شواطئ الحاضر الزاهر ، وتوالت الفقرات المُعبِّرة عن الفرحة العارمة بهذا الكرنفال ـ شعراً ونثراً ـ إلا أن المفاجأة السارة التي أعلنها أمين المحافظة والمتمثلة في تخصيص أرض لتشييد مبنى جديد للنادي بتوجيه من سمو أمير المنطقة وراعي ثقافتها ، والتوقيع على ستة عشر إصداراً جديداً للنادي كانت ثانية وثالثة جماليات الحفل بعد أن تربع الوفاء للرواد على الأولى منها .