«أيَّةُ أخلاقٍ في الجاهليِّةِ هذه»!!
قَبْلَ أنْ أُتَّهمَ بالقالةِ، وسوءِ المقصدِ، وخُبْثِ النِّيةِ، أُورِدُ ما قالَ به النَّبيُّ الكريمُ -عليه أفضلُ الصَّلاةِ وأتمُّ التَّسليمِ- بحرفه، نقلاً عن البيهقي في كتابه (دلائل النُّبوةِ 2/243): (قال الرَّسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لأبي بكر: 'يا أبا بكر، أيَّةُ أخلاقٍ في الجاهليِّةِ هذه، ما أشرفها! بها يدفعُ اللهُ عزَّ وجلَّ بأسَ بعضهم عن بعضٍ، وبها يتحاجزون فيما بينهم'). وفي ذات الكتابِ -أيضًا- نجدُ عمرَ بن الخطابِ -رضي اللهُ عنه- يقول: 'إنَّي لأعْلمُ متى تُهْلك العربُ، إذا جاوزوا الجاهليِّةَ، فلم يأخذوا بأخلاقِها، وأدركوا الإسلامَ فلم يَقُدْهُمُ الورعُ'. سأدعُ لكم قراءةَ ما قالَ به الرَّسولُ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وما قال به ابنُ الخطابِ، فهو واضحُ الدِّلالةِ. ولكنَّني سأطرحُ سؤالاً عالقًا في حلقي؛ وأعني به: لماذا يُوسَمُ العربُ في الجاهليِّةِ -أي قبل الإسلام- بأوصافٍ في غايةِ القُبْحِ، والهمجيِّةِ، والانحطاطِ، والسُّوءِ؟ ولماذا يتعمَّدُ البعضُ إخراجَ العربِ قبلَ الإسلامِ من الدَّائرةِ الإنسانيِّةِ؟ مع ذلك، سأنحّي التَّساؤلَ الأوّلَ، فلكم حقُّ الإجابةِ عنه؛ إلاَّ أنَّنا نصطدمُ بسؤالٍ على هذه الشَّاكلةِ: هل العربُ في الجاهليِّةِ خلوٌ من أيِّ حسنةٍ غير ما تعارفَ عليه النَّاسُ من كَرمٍ، وشجاعةٍ، وإباءِ ضيمٍ.. وغيرها؟ إنَّ الغيرةَ التي تدفعُ بالبعضِ إلى طمسِ كلِّ خصيصةٍ حسنةٍ للعربِ في جاهليتهم مدعاةٌ إلى الإساءة إلى الإسلامِ، دون قصدٍ، أو بيّنةٍ!! إنَّ الصُّورةَ التي خلَّفتها بعضُ الكُتبِ لا تعبِّرُ بالضّرورةِ عن واقعِ العربِ -آنذاك- فهي صورةٌ متوهَّمةٌ يتلبَّسها الخطلُ حينما تُقيسُ الوقائعَ بمقاييسِ العقلِ، لا بمقاييسِ الهوى، وإنَّ هذا وهمٌ خاطئٌ، فلم يكنْ العربُ -يومئذٍ- جماعةً بدائيةً، يعيشُ أهلُها عيْشَ السَّائمةِ، أو السَّائبةِ! ولعلَّ بيتَ عامر بن الطُّفَيْلِ يعطينا مؤشرًا صالحًا على ذلك: أنِّي وإنْ كنتُ ابنَ سيَّدِ عامر وفي السرِّ منها والصَّريحِ المهذَّبِ فما سوّدتني عامرٌ عن وراثةٍ أبى اللهُ أنْ أسمـوَ بـأمٍ ولا أبِ ولكنَّني أحمي حماهـا وأتّقي أذاهـا وأرمي مَن رَمَاها بمنكبِ دعونا من أبياتِ ابن الطُّفيلِ، فقد يُتَّهمُ من قِبل البعضِ بروحِ العصبيِّةِ، وأُتَّهمُ أنا بنقصانِ الدَّليلِ؛ ولكنَّني سأحيلكم إلى ما يُعَضِّدُ ما ذهبتُ إليه، ويُسْقِطُ كلَّ ما عَلُقَ في الأذهانِ من تصوّرٍ فاسدٍ لكلِّ عربيٍّ قبلَ الإسلامِ؛ لأنَّنا لو تأمّلنا -فقط- هذا اللّسانَ العربيَّ المبينَ فحريٌّ بنا تفهُّم تلك الحياةِ، ولو بصورةٍ أكثر وعيًا، وعدلاً. فقد جاءَ الإسلامُ على لغةٍ قائمةٍ حيِّةٍ يُحيطُ بها الكمالُ من كلِّ جانبٍ، في حين نجدُ بعضَ اللغاتِ تعيشُ في ذاتِ الزَّمنِ يتخبَّطها القصورُ، ويعتورها النُّقصانُ! فهل يصحُّ بمقاييسِ العقلِ أنْ يكتملَ بنيانُ لغةٍ بَلَغت من الفصاحةِ والبيانِ والبلاغةِ ما بلغت، وتعيش في مجتمعٍ لا يزالُ في بدايةِ تكوينه الاجتماعيِّ، ويوصف بالسَّفهِ والنَّزقِ إذا لم تكن ممتدةً إلى أعماقٍ من التَّحضرِ؛ كي تكونَ مهيأةً لتلك النَّقلةِ النَّوعيِّةِ التي أحدثها الإسلامُ؟!