الاهتياجات الطًّائشة.. القاموس الجديد!!
بعْضُ الكَتَبة ومَنْ لّفَّ لفَّهم من الدَّهماء والرّعاع درج على الإساءة إلى من يُخالفهم؛ إساءةً تصل حدّ التَّجريح، والسَّفه بمجرد أنْ تختلف معه في الرَّأي، أو تناقضه في الفكرة. لقد كان من عادتي، في السَّنوات الأخيرة أن أتصفَّح الكثير من المواقع، وصفحات التَّواصل الاجتماعي، وبدا لي ما لم أكن أتخيّله من الخبال في القول، والفساد في الكلمة، فتذكَّرت ما كَتَبه الأديب مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- في كتابه الشَّهير (على السَّفود)، وقد رهنه من أوّله إلى آخره في ذم المفكر الكبير عباس محمود العقاد- طيب الله مثواه-، وسبّه، وشتمه حتَّى أنَّه لم يترك مذمَّة إلاَّ وألصقها بالعقاد، فاستصْغرتُ حينها الرافعي، ورفعت عنَّي عناء قراءة الكِتاب مرةً أخرى، وإنْ كان يستحق الإعادة، لما يحمله من وجهٍ يعكس ذات الزَّمن الذي كُتب فيه، ويرينا جزءًا من حقيقة ما في الأنفس، ولمَّا ظفرنا بأدوات التَّقنية الحديثة في السَّنوات الأخيرة ومحركاتها السَّريعة، كدت أنْ أحمد للرافعي تلك اللّغة الجميلة، والوثيرة، والمهذبة حال قياسها بحال بعض سفهاء كتَّابنا في هذا الزَّمن، ومن يتبعهم من القرَّاء والأتباع. أكاد أقسم بالله إنَّنا نعيش في زمن لم يشهد قاموس السِّباب، ومترادفاتها، ومشتقاتها مثل ما نشهده هذه الأيام..!! فكلَّما أقبلت علينا بوادر صَادقة للحوار، وفَتَح لنا العقلاءُ أبواب النّقاش، وردَّدنا في المجالس العامَّة والخاصَّة ذات المقولة الشَّهيرة (إنَ اختلاف الرّأي لا يُفسد للودّ قضيِّة) زدنا غِواية، وتبارينا شَبَقًا في تتبّع قواميس المفردات السُّوقيِّة، وما تحتها من مترادفات السَّفه والطَّيش. إنَّ سفه المفردة المكتوبة أو المنطوقة، تساوي قَطْعًا سَفه مَنْ يحملها، أو يروّج لها، وإنَّ بواطن الرّأي الفاسد لا شكَّ جزءٌ من فساد دواخل حامله والمروج له. قد تغرُّكَ بعض المظاهر الشَّكليِّة في حضرة البعض، وما يتصنَّعه الكثير من مثاليِّة زائفة في القول تلوكها الألسنة حال الاتفاق معهم؛ ولكنَّ سرعان ما يتبدَّل الحال؛ فيكتسون بلبوس البغضاء عندما تختلف معهم، أو تفنّد زعمهم، أو تنتقده!! عليك؛ فقط أن تمرِّر محرِّك البحث في المواقع، وأدوات التَّواصل ستجد- والعياذ بالله- قاموسًا غريبًا لم تعهده من قبل، وقد امتلأ بالسِّباب، ولغة الغاب، فتترحَّم على أخلاق الاختلاف، وتحمل بين ذراعيك نعش الحوار..!! إنَّ أسوأ ما تراه، وأقبح ما تنتظره أنْ تجد من يتحدَّث عن الحوار ويتشدَّق به، ويدعو إلى تقبُّل الآخر ويترنَّم له؛ ولكنَّه حديثٌ لا يجاوز اللّسان، ولا يتعدى الفكَّين؛ فمن وراءه رداء فضفاض، لا يغني فتيلًا، ونفس ترتع فيها أحطّ الجراثيم نتانةً وقباحًا..!! وعندما يبلغ المرء إلى هذا السُّوء فذلك نذير سوء على المجتمع، ونذير سوء على تلك السَّنوات التي أقمنا عليه بوادر للحوار، وما يتبعها من ندوات ولقاءات!! إنَّني أخشى أنْ أدنس هذه الزاوية ببعض من تلك المفردات التي يغرّد بها السُّفهاء، ويتبارى في ذكرها الرّعاع في مواقعهم، وإلاَّ لذكرت ممّا يستحي منه الطّفل الذي لم يبلغ الحلم؛ فضلًا عن العاقل الكبير. إنَّنا نخسر أضعافًا مضاعفة من هذه السُّوءات والاهتياجات الطًّائشة، وكلّ يومٍ يقدِّم لنا مجموعة من السُّفهاء قاموسًا جديدًا من السِّباب، لا يغني من الحق شيئًا!!