حلقةٌ مفرغةٌ.. وعقولٌ بلهاءُ!!
هناك حلقةٌ مفرغةٌ ندورُ فيها في كثيرٍ ممَّا يصدرُ عنَّا من أفكارٍ، أو رؤى، في قالبٍ من الاستكانةِ حدَّ الجمودِ؛ استهوت الكثير من الكسالى فأصبحوا بفعلِ ذلك الكسلِ مستلبين، ومستكنّين، لا يخرجون منه إلاّ إليه. وتلك الحلقةُ يتوارثها الخلفُ عن السَّلفِ، كأنَّها فرضٌ واجبٌ، أو ورثٌ مقْسومٌ، أو وصايةٌ من الوصايا التي لا يطالها التغييرُ أو التبديلُ؛ حتّى أصبحنا في غيٍّ من الاستحكامِ الذي لا فكاكَ منه، ولا سبيلَ لنا تمردًا عليه، أو خرجًا منه. وهذا الغيُّ أصابَ الكثيرَ بالتبلّدِ؛ حتّى استغرقَ قوانا الفكريّة، والعقليّة، وبات الواحدُ تلو الآخر لا يكادُ يخرجُ منه حتّى يرتدَّ إليه. حسنًا؛ الأقلامُ -كما هي منذُ أن بدأت- تُرسلُ الحروفَ على بساطِها الأبيضِ لم تتغيّر!!. والمدادُ ذاته المداد الذي يسيلُ بكمٍّ وافرٍ من الإعادةِ والاجترارِ؛ حتّى أصابنا الغثيانُ، ووصلنا حدَّ التخمةِ والعياذُ باللِه!!. والأفكارُ كما العهد، فلا تخرجُ من رأسٍ حتّى تدخلَ في آخر لا يحسنُ المفاضلةَ، أو التّرجيحَ، أو الاحتجاجَ، أو التّفنيدَ، أو التّصحيحَ!!. إنَّ تلك الأفكارَ المرسلةَ يتلقفُها خلفٌ عن سلفٍ؛ تلقّف المشدوهِ دون تفكّرٍ، أو تأمّلٍ، أو إضافةٍ جديدةٍ تشفع للناقلِ عناء النقل والإعادة والتّحبير!!. لقد باتَ الواحدُ منّا يؤمنُ إيمانَ يقينٍ لا شكَّ فيه ولا ريبة أنَّ تلك الحلقاتِ المفرغةَ التي ندورُ فيها لا سبيلَ إلى الانفكاكِ منها، فنحنُ ندورُ فيها دونَ أن تهدأَ فينا نشوةُ الدورانِ، أو تسكنَ فينا محبةُ الاجترارِ. هذه الحلقاتُ المسيطرةُ علينا أخذت منّا ما تبقّى من عقولِنا وأفكارِنا، فلم يعد هناك متّسعٌ لجَلَدٍ، أو صبرٍ يعينُنا على تحمّلِ ذلك، فأصبحنا بفعلِ التّرهلِ الفكريِّ المشينِ، والإعادةِ المتبلّدةِ كأنّنا في قمّةِ الإبداعِ والنّحتِ الفكريِّ، زعمًا بغيرِ دليلٍ أنّنا أبدعنا، أو أنتجنا شيئًا يُحسب لنا، فكرًا أو إبداعًا أو نتاجًا نفاخرُ به جيلَنا؛ ناهيك عن أجيالٍ لاحقةٍ سـتأتي بعدنا، فأيّ عمىً نسكنُه، وأيّ غشاوةٍ نحنُ فيها؟!. لقد أعتقدَ البعضُ -حدَّ الإيمانِ الصادقِ- أنّ السلفَ لم يتركْ للخلفٍ شيئًا، وهذا لعمري قمةُ البلادةِ الفكريّةِ، و ذروةُ الخنوعِ المتربّصِ بالكثيرِ من مردّدي العبارةَ السابقةَ التي هي في الأصلِ (حيلةٌ ساذجةٌ) قالها أحدُهم، وهو في حالة من (الاستكانةِ والضعفِ) حتّى بلغَ به الحالُ حدًّا كبيرًا من البلاهةِ، والقبحِ) الفكريِّ الباهتِ!. لقد أضحى الكثيرُ من البلهاءِ يردّدون حروفَ تلك المقولةِ السخيفةِ كأنّها آيةٌ منزلةٌ، وقد ردَّ عليهم شيخُ المعرة، ورهينُ المحبسين في سخريةٍ تُقال لأحدِهم حين تموتُ فيه لغةُ الإبداعِ، وتهيمنُ عليه سطورُ الخنوعِ: ' ليس أضرَ على العلمِ من قولِ القائل: ما تركَ الأوّلُ للآخرِ شيئًا' وبمثل قول المعرّي قول جدّنا الجاحظ: 'إذا سمعتَ الرجلَ يقولُ: ما تركَ الأوّلُ للآخر شيئًا فاعلم أنَّه لن يفلح!!'. أما كان أجدر بنا ونحن أمّةٌ مأمورةٌ بالعلمِ أن نرميَ عن كواهلِنا تلكَ المقولةَ البليدةَ، ونستعيضَ عنها بمقولِ صاحبِ كتابِ كشفِ الظنونِ، إذ يقولُ: 'واعلم أنَّ نتائجَ الأفكارِ لا تقفُ عندَ حدٍّ، وتصرفاتِ الأنظارِ لا تنتهي إلى غايةٍ، بل لكلِّ عالِمٍ ومتعلّمٍ منها حظٌّ يحرزه في وقته المقدّر له، وليس لأحدٍ أن يزاحمه فيه؛ لأنَّ العالمَ المعنويَّ واسعٌ كالبحرِ الزاخرِ، والفيضِ الإلهيِّ ليس له انقطاعٌ ولا آخر، والعلومُ منحٌ إلهيةٌ، ومواهبُ صمدانيةٌ، فغيرُ مستبعدٍ أن يدّخرَ لبعضِ المتأخّرين ما لم يدّخر لكثيرٍ من المتقدّمين، فلا تغترَّ بقولِ القائلِ: ما تركَ الأوّلُ للآخرِ، بل القولُ الصحيحُ الظاهرُ: 'كم تركَ الأوّلُ للآخرِ؛ فإنّما يُستجاد الشيءُ ويُسترذلٌّ لجودتِه ورداءتِه في ذاته لا لقدمِه وحدوثِه'.