إيران: الرهان على البعيد

إيران: الرهان على البعيد
تحدثت في مقال الأمس عن الإرث الإمبراطوري الذي ما زال مختزناً في ذاكرة الأمتين الفارسية والتركية ، وقلت بأن ذلك الإرث مرتبط لدى كل من الأمتين بعلاقة تنافسية أدت إلى نشوب الحروب أو على الأقل النزاعات السياسية الحادة مع الأمة الأخرى، منذ عهد أكاسرة الفرس وملوك بيزنطة ، مروراً بعهد الصفويين والعثمانيين ، وانتهاء بعهد الملالي والأردوغانيين . الإيرانيون حالهم حال أية أمة تمتلك مشروعاً يهدف إلى التحول من دولة محدودة السيادة إلى قوة إقليمية عظمى تمتلك أكبر كم ممكن من مفاتيح التأثير والسيطرة ، يجيدون تماماً لعبة تعبئة الفراغات السياسية والاستراتيجية ، أياً كانت أسباب حدوث حالات الفراغ تلك . وهذا قانون تاريخي وجغرافي كما هو سياسي ، فوجود فراغ ما ينتج عنه ظهور قوة أو مجموعة قوى ، تسعى لملء ذلك الفراغ . الإيرانيون استغلوا حالة الفراغ السياسي والاستراتيجي التي حدثت في المنطقة العربية بعد توقيع الاتفاقية المسماة بكامب ديفيد ، وما نتج عن تلك الاتفاقية من عزل لمصر عن محيطها وتحييدها فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي ، وحاولوا الظهور بمجرد نجاح ثورتهم ، بأنهم الوحيدون القادرون على وراثة دور مصر التاريخي في لم شمل الأمة ، وفي إعادة توجيه البوصلة نحو فلسطين . وهذا ما كان له أكبر الأثر ، في التعاطف الذي أظهرته نسبة غير قليلة من شباب العرب مع الثورة الإيرانية . وهو ما كان مرشحاً للتنامي لولا الحرب العراقية الإيرانية ، وما صاحبها من توظيف للعامل المذهبي بهدف التعبئة والتعبئة المضادة . لكن الإيرانيين لم يتركوا الساحة وظلوا يتحينون الفرصة المناسبة للتمدد استراتيجياً باتجاه الغرب العربي . وقد كان الغزو الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢ وما صاحبه وتلاه من مذابح صبرا وشاتيلا ، وتنصيب صديق إسرائيل بشير الجميل رئيساً للجمهورية اللبنانية ، وهزيمة الجيش السوري الكاسحة والقضاء على ما لا يقل عن ثمانين في المائة من قوته الجوية ، وإصرار العدو الإسرائيلي على عدم الانسحاب من مساحة واسعة من الجنوب اللبناني أطلق العدو عليها اسم : الشريط الحدودي .. كل هذه العوامل كانت بمثابة الفرصة الذهبية للإيرانيين ، لبناء قاعدة استراتيجية لهم على بعد ما يزيد عن ثلاثة آلاف كيلومتر غربا . الإيرانيون استغلوا حالة الفراغ السياسي والاستراتيجي العربي التي أدت إلى كل ما سبق ، وتفهموا شعور اللبنانيين عموما وأهالي الجنوب اللبناني على وجه الخصوص ، بالرغبة في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي ، وراحوا يتحركون في هذا الاتجاه ، بخطى مدروسة وبرؤية بعيدة المدى . ما حدث أن رجال الدين الشيعة الموالين لإيران في الجنوب اللبناني أسسوا بعد الغزو الإسرائيلي بأشهر ، «للمقاومة الإسلامية» أو لما بات يعرف في واجهته السياسية باسم : حزب الله . ومن يوم تأسيسها تقريباً ، أصبحت المقاومة هي التي تحتكر فعل مقاومة العدو ، وانتهت بذلك حقبة من المقاومة طغت عليها التوجهات القومية واليسارية تحت قيادة السلاح الفلسطيني . ربما لم يكن الإيرانيون بحاجة لمواجهة التيارات الوطنية كي يتمكنوا من احتكار المقاومة ، بسبب عدم وجود الدعم الإقليمي للمقاومة التي كانت تنتمي للتيارات القومية واليسارية بصورة عامة ، وبسبب إبعاد السلاح الفلسطيني الذي كان يرتبط بعلاقة تحالف استراتيجي مع قوى الحركة الوطنية اللبنانية . وهنا يبقى سؤال مهم لا أعتقد أن التاريخ قد أجاب عليه بشكل حاسم حتى الآن ، وهو : هل حاولت المقاومة الموالية لإيران في لبنان ، تصفية ما تبقى من جيوب وفلول للمقاومة القومية واليسارية ، لتحتكر هي فعل المقاومة ، ولتنفرد فيما بعد بحمل السلاح ، أم أن خروج السلاح الفلسطيني وانقطاع الدعم العربي من الناحيتين العسكرية والسياسية ، أديا إلى تحلل المقاومة القومية واليسارية من تلقاء نفسها في لبنان ؟ أيا كانت الإجابة ، وبغض النظر عن اختلافنا معهم ، فإن الواقعية تقتضي منا الاعتراف بقدرة الفرس كأمة على التعامل مع اللعبة السياسية وفق عقلية تتسم بطول النفس . ويبقى السؤال : هل كانت حالة الفراغ العربي هي السبب الوحيد في تمدد إيران ، أم أن هناك أسبابًا أخرى ؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في مقال الغد إن شاء الله .

أخبار ذات صلة

قوَّتي على مكافأة مَن أحسنَ إليَّ
مها الوابل.. الغائب الحاضر
وردك.. يا زارع الورد
تمكين تبوك غير.. فلها الدعم والتقدير
;
أقساط البنوك.. والإسكان
تزوجوا.. مثنى وثلاث ورباع
كتاب (الملك سلمان).. تأكيدٌ للمكانة التي يتمتع بها
الأفكار والتنظير هما أساس العمل والإنجاز
;
قراءة متأنية لرواية «رحلة الدم» لإبراهيم عيسى (3)
لماذا إسبانيا؟!
الموانئ والجاذبية في الاستثمار
احذروا ديوانيَّة الإفتاء!!
;
قصة عملية مياه بيضاء..!!
منتجات المناسبات الوطنية!
القيادة.. ودورها في تمكين المرأة للتنمية الوطنية
الرُهاب الفكري!