كعب أخيل الديمقراطية....

كعب أخيل الديمقراطية....

أقرب معنى لمصطلح البيروقراطية ويقترن به ذلك الذي يحيلنا لدلالات تعطيل العمل بتطويل إجراءاته عبر الروتين القاتل أو بتوظيف البيروقراطية في تعقيدات لا فائدة منها ولا غرابة إن ظل معنى الكلمة في الاستخدام الشعبي يطابق سلبياتها لكن البيروقراطية تستند لنظرية عالم الاجتماع والإدارة الألماني (ماكس ويبر) ولرؤيته بأن الإنسان لا يعمل إلا في ظل قوانين صارمة وأنظمة مقيدة تحد من عدم إنتاجيته ورأى أن على المدير أن لا تأخذه لومة لائم في تطبيق القانون بعيدا عن العاطفة بأبعادها الإنسانية. وفي الحقيقة ما ينفر من البيروقراطية ممارساتها في القطاع العام فقد نفرت الناس من مفهومها بممارساتها ولكن ليس ثمة مقارنة بين هذا التوظيف الخاطىء والمنطلقات الأساسية للنظرية إلا إن اخترنا أسوأ ممارساتها ودهناها لخدمة تعطيل الناس. القطاع الخاص بطبعه ينفر من التعقيدات البيروقراطية ويحاول تطويعها لخدمة أهدافه في النمو والربح من خلال الاهتمام بالزمن وباتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. ولهذا للقطاع الخاص تأثيره في تحسين البيروقراطية مثلما له دور في تعزيز الثقافة الديمقراطية في الغرب مما جعل مفهوم البيروقراطية في الغرب يرمز للنظام والقانون والالتزام به، وأوضح نموذج يشرح ذلك التجربة النيوزيلندية التي حققت خلال عام 1956م ثراء جعل اقتصاد نيوزيلندا على رأس قائمة أفضل دول العالم وهو إنجاز تحقق للنيوزلنديين في ظل ثقافة صنفت فيما بعد بالسلبية مع المطالبة بتغييرها بينما هذا الانجاز النيوزيلندي تم عبرها وفي الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وفي وقت قياسي بكل معنى الكلمة ومن خلال معادلة غاية في البساطة وهي الحق المطلق في العمل اللائق لكل مواطن نيوزيلندي قادر وأراه موقفا في تطبيق الأنظمة والازدهار الاقتصادي يؤكد ذلك رد فعل المواطن النيوزيلندي حينها فقد كان مثالا للاجتهاد برفع الإنتاجية وخلق وفرة وبحبوحة من العيش الرغيد للجميع ولكن آفة (حارتنا النسيان) كما يقول نجيب محفوظ، جاءت أجيال تالية تناست ما جرى ولم تتذكر كفاح الجيل الذي حقق الثراء النيوزيلندي المدهش ولهذا ركضوا خلف شعارات انتخابات عام 1984م التي دفعت الشباب إلى جانب حزب العمال النيوزيلندي الذي تمكن من النفاذ إلى الحكم بدغدغة العواطف بشعاراته البراقة المخادعة والزائفة وكانت مضامينها أن الأولوية لتقليص الأنظمة والحد من البيروقراطية والوعد بإطلاق حرية السوق وتشجيع المبادرة الفردية ولكنها كانت أقرب للتهريج لا عجب ففي السياسة يتم خلط التدليس بالمخاتلة ولذلك انتكست المعجزة الاقتصادية النيوزيلندية من شباك السياسة مع تراجع نمو القطاع العام والخاص ولم تسعف الوضع البرامج التي ظاهرها 'الرحمة' وباطنها العذاب ، من ثمارها أنها جعلت الفرد والاقتصاد ضحية. وما جرى في نيوزيلاندا يبين أن كعب أخيل الاقتصاد النظام الديمقراطي نفسه لأنه من الضعف بحيث يسمح بصعود من يلغي ذاكرة الأجيال التالية ويمكن لجماعات ليس لها من هم سوى الوصول للمقعد السلطة على أن مشكلة الأجيال التالية أنها لم تعان الأزمات التي عاشها الأجداد وإنما وجدت الرفاه والرخاء ولهذا من السهل الضحك عليها بالشعارات وإخفاء المآرب التي تقف خلفها وهي مصالح أصحاب الأصول والأموال الذين يحركون الأمور السياسية يمينا ويسارا وفقا لمنافعهم ولزيادة أعمالهم وفي المحصلة يتمكن بعضهم من التحكم في الاقتصاد النيوزيلندي هذا يقودني للمثال السنغافوري الذي يعكس نجاحا جسده رجل راهن على المستقبل من خلال اهتمامه بالاقتصاد والتنمية وتوفير وظيفة لكل مواطن سنغافوري قادر وخلال فترة وجيزة تخطت سنغافورة تحدياتها وتغلبت على صعوباتها وتجاوزت الفقر للرفاه والثراء وهي اليوم تعيشه ولكن مع طول الأزمان أتي جيل جديد لم يعش الأيام الصعبة ولن يلبث ان يركب موجة الشعارات وإن تمكن سيهزم كل التجربة السنغافورية ويجعلها أثراً بعد عين وذكرى بعد أن صارت نموذجا اقتصادياً يحتذى به. مشكلة الأجيال التالية ليست في ضعف ذاكرتها فحسب بل في عدم رؤية المخاطر التي أمامها لأن تغيير المعادلات الاقتصادية في أي بلد قد تنتهي بالأجيال في جيوب شريحة أصحاب المصارف . إن الضعف البشري في نقد الشعارات أو مطاردتها يبدو عاما فمثلما اشتركت فيه تجربة نيوزيلندا فقد تنتقل عدواه لنماذج كسنغافورة وأحيانا أتابع في سلوك بعض شبابنا بالمصارف ومراكز خدمات العملاء وكأنهم يقولون أنهم ولدوا في الوفرة ويعيشون فيها وأنها مستدامة. وهو استغراق سلبي له تعقيدات مؤسسية تدفع لتشجيع تفعيل المفهوم الأصلي للبيروقراطية وخاصة في الحد من ممارسات الاختيار دون رقابة لأن أي ممارسة تتم بلا وعي يحرسها ، فإن كل التضحيات التي بذلها الآباء المؤسسون عرضة للمخاطر والحال كذلك يحتاج الفرد لتعميق ثقافة الاختيار الحر لأنها تقلب الخيارات قبل الإقدام على أي قرار. ومن تجربة شخصية في انتخابات الغرفة التجارية الصناعية بجده أجد نفسي أكثر ميلا اليوم لتأييد مزيج من الانتخاب والتعيين في مجالس الغرف التجارية وفي شركات المساهمة العامة وحتى البلديات لأنه بدون الإعداد الكافي لبعض القفزات الإدارية ستكون في الهواء دون تدرج أو محاكاة لما يجري في الثقافات الغربية التي تبلورت عبر السنين وأنضجتها ممارساتها في الاختيار الديمقراطي ولهذا في بلدان العالم النامي وفي المتقدم نحتاج لجرعات الصبر ولحكومات مركزية قوية تأخذ بيد المؤسسات إلى الممارسات العلمية والمعرفية وللعمل على تحقيق هدف العيش الكريم والوظيفة اللائقة وتعمير الأرض وتحقيق الخلافة عليها. وإلا فإن كعب أخيل الديمقراطية يتربص بالتجارب الاقتصادية الناجحة.

أخبار ذات صلة

القرآن الكريم ورونالدو..!!
أكبر مشروع للثروة الحيوانيَّة بالشرق الأوسط
الصحافة الورقية
سوريا «العربية» والدبلوماسية «السعودية»
;
العرب بين 1916 و2024.. مكانك سر!
حكايتي مع الإِدمان
مُد يدك للمصافحة الذهبية
السعودية.. الريادة والدعم لسوريا وشعبها
;
المتيحيون الجدد!
المديرون.. أنواع وأشكال
أين برنامج (وظيفتك وبعثتك) من التطبيق؟!
علي بن خضران.. يد ثقافية سَلفتْ!
;
من يدير دفة الدبلوماسية العامة الأمريكية؟!
الرياض.. بيت العرب
جميل الحجيلان.. قصص ملهمة في أروقة الدبلوماسية
الجزيـــــــرة