القشور.. واللباب
إنَّ الاعتزاز بالتّراث ليس من معانيه – أبدًا- تقديس الموتى، أو العيش معهم في القبور أو تحت التّراب؛ بل معناه النّفوذ إلى روح ذلك التّراث؛ نشتمّ منه روحه العبقريّة، ونسعد من خلاله بجوهر الحقيقة؛ إنّه النّفاذ إلى المعاني حتّى تكون جزءا من كياننا، لتستحيل إلى طاقة تغذّي أرواحنا . إنَّنا حينما نعتزّ بتراثنا الفكري الذي خلَّفه لنا جهابذة الفكر وعباقرة الأمّة؛ كالفارابي، والرازي، والكندي، وابن سيناء، وابن الهيثم، وابن البيطار، وابن النفيس، وابن ماجة، وابن الطفيل، وابن رشد، وابن خلدون .. لا يعنى ذلك أنَّنا نتلمّس لديهم فكرًا نُدين به اليوم ونحن على أعتاب العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في زمنٍ طغت فيه تباريح العلوم والمعارف وما يتبعهما من مكتشفات ومخترعات طالت كلّ مناحي الحياة في كلّ مكان وطأته قدم إنسان. كما أنّنا لا نتلمّس في ذلك الإحياء مذهباً عقليّاً نسير في هداه، ونخطو على خطاه، أو نبحث عن حلولٍ للكثير من المشكلات والمعضلات التي تطرح في عصرنا هذا، خاصّة وهو يعيش تحت وطأة الأزمات وتداعي الأمم علينا؛ كلا..؛ فلا أظنّ أن كُتب أولئك العباقرة تستطيع أنْ تدفعَ عنّا هذا التّداعي وهذا الضّعف، أو تصرف عنّا غلواء تلك الأزمات المتتالية؛ ولكنَّها تستطيع - بلا شكّ- في دفعنا لفهم واقعنا من خلال ما حوته تلك الكُتب وهي تحمل بين دفّتيه أرواح وأنفاس أصحابها وتجلياتهم الفكريّة والعقلية. إنّنا عندما نعتزّ بعظماء الأمّة كأولئك المذكورين أعلاه، وننتسب إليهم؛ فإنّنا نستلهم منهم حبّهم للحقيقة، ونستوحي منهم رغبتهم الصّادقة بحثاً عنها، وستشعر عزيمتهم الملحّة في طلبها. إنَّ القارئ لديوان المتنبي – مثلاً- يجب أن يقرأه قراءة إحياء حيث يخرج منها بعد القراءة وقد تسربلت في عروقه كبرياء هذا الشّاعر، وإيمانه بذاته، ودفاعه عن عروبته؛ فضلاً عن السّعي إلى تحقيق أهدافه حتّى الممات. وإنّ القارئ لابن الهيثم – أيضاً- يجب أن يتقمّص ابن الهيثم؛ بحيث يخترق ضلوعه، ويسري في شرايينه كي يرى بعين ابن الهيثم، ويفكر بعقل ابن الهيثم في رؤيته للكون، وتحليله للأحداث، وتفكّره في ظواهر الأشياء وهو يتطلّع إلى اكتشاف الحقيقة، والوصول إليها، وسبر أغوارها، والوصول إلى كنهها. إنّ عملية إحياء التّراث بشقيه العربي والإسلامي عمليةٌ قوميةٌ وإسلاميّة بالدّرجة الأولى؛ ناهيك عن أنّها إسهام إنساني يحمل همّاً عالميّاً حضاريّاً. إنّ ممّا يؤسف له أنَّ أكثر المشتغلين على عمليَّة إحياء التّراث قَصَروا عملهم في الإحياء على تحقيق الكُتب وتخريجها، وهي عملية تقف عند القشور وتتغافل اللّباب والجوهر، وتناسوا أنّ ذلك الإحياء يجيب أن يكون تصحيحًا للنّفوس ومعايشةً لأهرامات الفكر وقامات التّراث وما يتبعهما من قيم تأريخيّة وحقائق مغيبة. إنّ إحياء التّراث بهذا الفهم لا يعني مجرد إعادة تحقيق كُتب قديمة وتصدّرها على أرفف المكتبات وأضابيرها - مع يقيني بعدمية وجدوى المضمون التي تحمله وقد تخطاها الزّمن وتجاوزها- بقدر ما يعني الاندماج فيها، وتذوق أرواح أصحابها حتّى نستطيع القول بأنّنا جديرون بأولئك السّلف نتماهى معهم في التّرابط الرّوحي والفكري!!