أين نحن من الفلسفة؟!
قديمًا عرف العرب على امتداد تراثهم الكتابة والقراءة، وقديمًا تفهّم العقلاء حرّية الرأي؛ فتعاطوا معه بما يفتح الله عليهم، فأصابوا وأخطأوا كل بحسبه وسببه. ثم جاء الإسلام، ففتح لهم الفتح المبين الذي لا ينكره إلاّ جاحدٌ أو مكابر في عالم الفكر، وما فواصل بعض الآيات الكريمات إلاّ الدليل البرهان، في دعوة مباركة غير مسبوقة؛ نحو البحث في مجاهل الكون، والغوص في أغوار المجهول. وكيف يتأتى لنا ذلك التعاطي مع ملكوت السماوات والأرض؛ دون تأمّل أو تفكّر؟! فشكّل ذلك بعدًا جديدًا، وفتحًا عظيمًا اتّسع للعقل دون إدراك كامل للمتأمّل، أو جزء يسير منه للمتفكّر؛ فعجز عن أشياء كثيرة هي في الجوهر من صميم خلقه، وغابت عنه أشياء لم يمتلك بعدُ أدواته للوصول إليها والتساوق معها. ومع أنَّ هذا التأمل، أو ذلك التفكر؛ هو في نهاية المطاف نتاج عقلٍ يؤخذ منه ويرد، كديدن أيّ فكرٍ بشري يصحّ فيه القبول أو الرفض. تلكم كلمات قبلاً تشكّل في مجملها مدخلاً حسنًا، لنقول: إنَّ المسلمين لم يكن لهم رؤيةُ واضحةٌ لماهية الفلسفة، وإن كانت هناك ومضات، تتشكّل في ثناياها بعدًا فلسفيًّا كما هو الحال في (رسائل أخوان الصفا)، أو لدى بعض المتكلّمة خاصة من المعتزلة. حتى بدا في الأفق ما ينبئنا بنظريّة فلسفيّة -أو على الأقل- رؤية واضحة تحمل في مجملها مفهومًا للفلسفة، في إطارها النظري -على أقل تقدير- مع تنوعاتها الكثيرة، ورؤاها المتعددة، وذلك على يد نابهين أطلقوا العنان للفكر؛ ليأخذ مساره في التأمّل والتفكّر، متأثرين بعاملين شديدي الأهميّة، هما: عامل الدين؛ كمفهوم فطري عقائدي يدعو بصريح خطابه إلى التأمل والتفكر. وبعامل التبعيّة، والتّداخل الثقافي، والتلاقح المعرفي. فكان الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن خلدون، وابن رشد وغيرهم، فاكتملت الرؤية على يد الأخير تحديدًا، فبرز في الأفق ما يُسمّى بالفلسفة الإسلامية. علمًا أنَّ فلسفة ابن رشد -مثلاً- بدأت من منطلق فكري حرّ لا يقف أمامها أي طوق أو حدّ، فصنع من ذلك الانطلاق ما يُعرف به كأحد الفلاسفة النابهين في تراثنا العربي والإسلامي؛ كخلفية سابقة، أو كتعبير حرّ ارتكز على فكرٍ استقى من محيطه عوامل بنائه، فأصبح لدينا فيلسوف فَتَح للعرب أفقًا حرًّا: تميزًا عن الأقران واللّدات، مع ما أصابه من ويلات الإبعاد، والسجن، وحرق الأفكار!!. الشيء الجدر ذكره أنَّ الفيلسوف ابن رشد كان همّه في المقام الأول هو إعلاء شأن العقل من مبدأ ديني؛ على اعتبار أنّه مقصد من مقاصد الشريعة. يقول المفكر محمود أمين عالم في إشارة إليه: 'بل أسهمت هذه الفلسفة بشكل فعّال في تطوير الفكر الأوروبي في القرن الثالث عشر وما تلاه، وفي نشأة عصر النهضة الأوروبيّة، وظلت فلسفته حتى اليوم قوة لهامٍ وتنوير وتغير رغم ما واجهته، وما تزال تواجهه من اضطهاد ومحاصرة وتشويه...'. ما حدا بأبي حامد الغزالي أن يستحث الخطى نحوه؛ مسخرًا كل طاقته الفكريّة وأقيسته العقلية، وبراهينه المتنوعة في كتابة مؤلّفة الشهير (تهافت الفلاسفة)؛ كرد فعلي عقلي يتماهى وطبيعة المرّحلة، زمانًا ومكانًا؛ لما أنتجه الفلاسفة السابقون، وهو في المجمل ردٌ فلسفيٌّ؛ إسقاطًا من حيث نتاجه القائم على العقل في تناقض مستتر، ما دفع بابن رشد بالرد على الغزلي بكتابه المعروف (تهافت التّهافت). ثم توالت الدراسات الفلسفية والفكرية المتنوعة في العصر الحديث، تحمل في تشعباتها همًّا فكريًا فلسفيًّا يأخذ منحى الجدة والابتكار، فظهرت لنا كوكبة جميلة من الفلاسفة والمفكرين من أمثال: محمد إقبال، ومالك بن نبي، وعلي عبدالرزاق، حسن حنفي، ونصر حامد أبو زيد، وزكي نجيب محمود، وعباس محمود العقاد، وعبدالرحمن بدوي، وغيرهم... السؤال الكبير: أين نحن السعوديون من الفلسفة كعلم، يصنع رؤية، ويقدم مشروعًا؟ أعتقد أن الإجابة عن ذلك السؤال تبدو صعبة من جهة، ومرّة من جهة ثانية؟!