لا أدري.. لا أدري..!!

لا أدري.. لا أدري..!!

دعونا ابتداءً نَقرْأُ سويًَّا قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ). وقوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ). آيتان عظيمتان؛ قلَّ من يقف أمامهما بالإجلال والتَّقديس، بعد أن تبارى بعض الجَهَلة وأرباع المتفيقهة وهم يصدرون فتواهم على الملأ في المجالس الخاصَّة والعامَّة؛ هذا حرامٌ، وذاك حلال. جاش في خاطري وأنا أقرأ الآيتين قبلًا، مكمن الفرق بين الفتوى الشَّاذَّة في مقابل تلك الفتاوى المبنيَّة على رؤى فكريَّة؛ والأخيرة تلك - كما أتصور- تعدُّ أشدّ خطرًا من الأولى، كما هي بعض فتاوى أميمة داود كإجازة تولِّي المرأة إمامة الصَّلاة، وبعض فتاوى الإخواني حسن التَّرابي- على سبيل المثال-، فبنت داود والترابي يُقيمان ما يصدر عنهما من فتاوى عن رؤى فكريّة وليس تبعًا لما قال به فلان أو علان، وهنا مكمن الخطورة، فبين الفينة والأخرى يطلُّ علينا بعض من يسمَّون (دعاة) أو مفكرين بفتاوى شاذَّة أو مبنيَّة على رؤية فكريّة، فيتناقلها النَّاس في ظلِّ وسائل الاتصال الحديثة، إمَّا للتَّندر والسّخرية في إساءة بالغة للإسلام والمسلمين، وإمّا للعمل بها من قبل متتبعي الرّخص جريًا وراء الأهواء. حينما بلغ الرّسول -صلى الله عليه وسلم- قصِّةُ الرّجل الذي شُجّ رأسُه في سفر فاحتلم، فسأل الرّجل أصحابَه: هل تجدون لي رخصة في التَّيمّم؟! فقالوا: ما نجد لك رخصةً وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات!، فقال النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-: «قتَلوه قتَلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا». ويقول ابن ليلى: «أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فما كان منهم مفتٍ إلاَّ ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا». وهذا سفيان بن عُيينة يقول: «أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا، حتَّى لا يجدوا بُدًّا من أن يفتوا». وقال -أيضًا-: «أعلمُ النَّاس بالفتيا أسكتُهم عنها، وأجهلهم بها أنطقهم فيها». ولقد بَلَغَ مِنْ خوف بعض العلماء أنَّهم كانوا يبكون إذا رأَوُا من يتجرَّأ على مقام الفتيا؛ فقد دخل رجل على الفقيه ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن فرآه يبكي، فسأل عن بكائه، فقال: «استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم»، ثم قال: «ولبعض من يفتي هاهنا أحقُّ بالسجن من السراق». ويعلق ابن الجوزي: «هذا قول ربيعةَ والتابعون متوافرون، فكيف لو عاين زماننا هذا؟!». لقد استشعر العلماء أنَّ الفتيا «توقيع عن ربِّ العالمين»، فكانوا لا يجدون غضاضةً ولا حَرجًا أن يقولوا: «لا أدري»؛ فقد يُسأل الإمام مالك- في مسألةٍ من رجلٍ غريب، فيأتيه الجواب: «لا أدري»، فيقول: «يا أبا عبد الله، تقول: لا أدري؟!»، قال: «نعم، وأبلِغْ من ورائك أنَّي لا أدري». ويصف لنا تلميذُ أحمد بن حنبل أبو داود شيئًا من تورُّعه وتوقفه عن الفتيا، فيقول: «ما أُحصي ما سمعتُ أحمدَ بن حنبل سُئل عن كثير من مسائل الاختلاف في العلم، فيقول: «لا أدري».