في الحروب.. تصمت الملائكة أيضًا

في الحروب.. تصمت الملائكة أيضًا
وصلنا إلى زمن بقدر ما يحكمه العقل الصارم، تحكمه العبثية أيضًا، مثل الحروب المعاصرة التي تُدار من بعيد، أو بواسطة الطائرات بلا طيار. الحروب ليست ألعابًا نضغط على الأزرار لتحريكها. نقتل مَن نشاء، من الأعداء الافتراضيين، ثم نقوم من على الكرسي، نُدخِّن سيجارة، أو نشرب قهوة، وكأنّ الأمر مجرد تلبية لغريزة الاستمتاع، من خلال لعبة تبدأ بلحظة التحضير لها، وتحديد الخيارات، وتنتهي بقتل العدو الذي تفترضه اللعبة، وكثيرًا ما يكون إرهابيًّا عربيًّا، أو مسلمًا، أو إفريقيًّا بدائيًّا بمنظور الرجل الأبيض. الأمر الذي يجعل اللعبة، ليس فقط مؤدلجة، ومساراتها محددة سلفًا بين مفهومي: الشر الذي يتم إلباسه للعدو، والخير الذي يصبغ على البطل الأمريكي أو الأوروبي. ننخرط بقوة وحماس في اللعبة الافتراضية، ولا نرتاح إلاّ عندما نقضي على العدو العربيّ، أو المسلم الإرهابيّ، أو البدائيّ، وكأنّنا حققنا فعلاً خارقًا. تخيّلوا لحظة واحدة طفلاً يكبر ضمن هذه العلاقات الافتراضية المشابهة لما يراه في الواقع الموضوعيّ، في نشرات الأخبار والتحقيقات المغرضة، كيف سينظر إلى نفسه؟ لحظتان يتأسس عليهما كل شيء في حياته. إمّا الانفصام الكلي في الشخصية، والغرق في عالم الافتراض التعويضي، وإمّا احتقار الذات وجلدها؛ لأنها لم تستطع أن ترتقي لبلوغ درجة السلم الحضاري الغربي، والاقتداء بعنف وجبروت الأقوى. فيلم ولعبة القناص الأمريكي الذي بُني على صراع مميت بين قنّاصين، عراقيّ وأمريكيّ يمثل هذه الحالة بوضوح كبير. الأول يدافع عن أرضه بالسبل المتاحة، وعلى ظهره تهمة الإرهابيّ، وهو ليس ملاكًا طبعًا، لأن الملائكة لا تتحمّل الحروب، وقنّاص أمريكي قادم من بعيد، لاحتلال أرض، ونهب خيراتها. الحروب ليست ألعابًا حتى ولو كانت مؤدلجة، نلعبها ونحن نشرب القهوة، ونضغط على الأزرار. أظن أن الطيار الحربي الأمريكي، أو المالك للتكنولوجيا اليوم، يقوم بالشيء نفسه. رأينا على الشاشات العالمية، في حالات كثيرة، بمزحة صغيرة بين الطيار ومساعده، يُقتل أناس كثيرون بضربات صديقة، ويظهرون في شكل صور حرارية بالأسود والأبيض، وننسى أن من وراء الضغط على الزر لا يوجد أشخاص افتراضيون، ولكنْ بشر يمزّقون، وتُبعثر أطرافهم، أمكنة تلوث أبدًا، وبيوت تنهار على أصحابها، حفر بحجم المقابر، وعطش وأحقاد تنبت وتنمو، وتعيد إنتاج الضغائن نفسها في دورة تتكرر ولا تنغلق أبدًا. القتل على المباشر هو قتل حقيقي. الإنسان في الحروب روح وجسد حيّ، وليس مجرد صورة. الجنوح للسلام ضرورة أبدية لدرء المزيد من الأحقاد. في العالم العربي اليوم، كل شيء يصغر بما في ذلك الإنسان، شيء واحد يكبر باستمرار: الأحقاد التي بدأت تأخذ صبغة دينية وحضارية. نقتل اليوم أنفسنا، أو بعضنا البعض بشراسة، وبعد زمن لن يطول كثيرًا، سنجد أنفسنا داخل الخراب المعمم، وستنهكنا الأحقاد التي جررناها وراءنا منذ سالف العهود، ولن نحتاج إلى عدو خارجي يبرر وطنياتنا التي نفاخر بها، وينتهي شعب آخر من على وجه الكرة الأرضية، كان ذات زمن صانعًا للحضارات والعلم والخير والسلام. تمامًا مثلما حدث مع الهنود الحمر، بعد اكتشاف العالم الحر، عالم الخوف، والبارود، والسفن الحربية، والحداثة القسرية. ما يزال أمام العرب لحظة واحدة ووحيدة، أمامهم ليس النظر إلى الخلف، فهذا الحل أثبت عدم جدواه، الماضي منجز انتهى كفاعلية، وتحوّل إلى سلسلة من الرموز الدافعة أو المعطّلة، ولكن العودة نحو الأعماق، وكشف الغطاء عن كل جروحها التاريخية، ومحاولة فهمها كما هي في الواقع، لا كما نشتهيها أن تكون، ثم النظر إلى الأمام والانخراط في دائرة العصر التي وقفنا خارجها حتى الآن، مهما كانت قوة الصعوبات المترتبة عن ذلك.

أخبار ذات صلة

شهامة سعودية.. ووفاء يمني
(مطبخ) العنونة الصحفيَّة..!!
رؤية وطن يهزم المستحيل
ريادة الأعمال.. «مسك الواعدة»
;
هل يفي ترامب بوعوده؟
رياضة المدينة.. إلى أين؟!
جيل 2000.. والتمور
التراث الجيولوجي.. ثروة تنتظر الحفظ والتوثيق
;
قصَّة أوَّل قصيدة حُبٍّ..!
حواري مع رئيس هيئة العقار
الحسدُ الإلكترونيُّ..!!
مستشفى خيري للأمراض المستعصية
;
الحُب والتربية النبوية
سلالة الخلايا الجذعية «SKGh»
التسامح جسور للتفاهم والتعايش في عالم متنوع
التقويم الهجري ومطالب التصحيح