الخطاب العربي الاحتفالي وغياب الخطاب النقدي
تاريخ النشر: 30 يوليو 2015 03:08 KSA
حيثما حل الخطاب الاحتفالي، حل الخراب والتلفيق الذي لا يفضي إلا إلى المزيد من الانهيارات والهزائم. أهم ميزة في الخطاب العربي المشترك، هي احتفاليته واحتفائيته بما يظنه انتصاراً على خيباته المتتالية. هناك تغييب كلي للخطاب النقدي الذي تستقيم به الأشياء المائلة وتُقوّم به الخسارات وترميمها. الفكر السقراطي الذي دفع صاحبه الثمن غالياً، لم يثبت عالمياً إلا من خلال انتقادات تلامذته وتقويم ما كانوا يرونه غير صحيح على الصعيدين الفكري والفلسفي. مثالية أفلاطون لم تتطور إلا بنقيضها الأرسطي الذي قلب المعادلة وحوّل الانتباه نحو الأرض ومشكلاتها بدل معضلات السماء. وفي نفس السياق لم تتطور الرشدية عربياً وعالمياً إلا بوقوفها كنقيض لمثالية أبي حامد الغزالي وأتباعه، فاستمرت في الوجدان العربي والإسلامي والعالمي. للأسف، هذا الفكر النقدي العربي المميز، توقف نهائياً عند عتبات المثاليات الاحتفائية التي لا ترى في التاريخ نشاطاً بشرياً معقداً يصيب ويخطئ، ولكن سلسلة من المقدسات التي تضاهي في الكثير من نماذجها المقدس الديني وكأن العربي جبل على تحويل كل ما يلمسه إلى حالة مثالية مطلقة لا يلحقها الخطأ ولا تدخلها النقائص كما يقول الباحث هشام جعيط. بدأ العد التنازلي عند العرب تحديداً عندما توقف الإسلام عن إنتاج الفكر والتأمل واكتفى بالممارسة الطقوسية مركزاً على المختلف في الثقافة الدينية الواحدة، أكثر من المؤتلف الذي بإمكانه أن يجمع بين كل أفراد الوطن الواحد تحت سقف المواطنة، وخاض هذا الفهم الديني المحدود والخارج عن سياقات العصر، حروباً ضروسة في تفاصيل قليلة الفائدة، وأهمل قضية الفكر التأملي، والإنسان في كليته الاجتماعية والنفسية والتاريخية، وفكرة العدالة الاجتماعية وحرية الفرد في المعتقد والحياة، ضاربا كل عناصر الثقافة الإنسانية عرض الحائط وكأننا نعيش في مجتمع عالمي، العرب والمسلمون هم سادته؟ واكتفى بتثبيت عقلية التحريم التي تحولت مع الخيبات والهزائم المتكررة والاستعمالات السياسية المحلية والعالمية إلى دين مسلح، لا يعترف بشيء يخرج عن إيديولوجيته العدمية التي لا تخدم لا المجتمع ولا الدين المتسامح. وبدل تطوير الآلة النقدية التي هي الأساس والجوهر في كل تفكير إنساني يريد أن يرتقي ليمس جوهر الأشياء، تم الاكتفاء بالدوغما القاتلة التي أغلقت كل شيء في وجه التفكير والاجتهاد وحولت الحقيقة الإنسانية عن مجراها ودخلت في الاحتفائية بعالم لا يكاد يوجد في الواقع الموضوعي المهزوم. حتى الانكسارات العربية كثيراً ما حولت إلى انتصارات وهمية، ولم يُعترف بهزيمة ٦٧ التي جاءت معاكسة للخطاب الاحتفالي، إلا لاحقاً، عندما تمّ رهن المستقبل العربي. عجز الحاكم العربي المحتفي بسلطانه عن القول بأن انتصار ٧٣ تحول في نهايته إلى هزيمة، لأسباب يعرفها اليوم جميع المحللين. ماذا كان يضر الحاكم العربي، بدل الاحتفائية، أن يضع الحقيقة المرة بين أيدي شعبه؟ الثورات العربية اليوم، انكسرت بشكل فاضح، وتحولت إلى مطية للتدخلات الدولية لتدمير نواة الدولة العربية من الداخل، إلى اليوم لم ننشئ رؤية نقدية لفهمها ووضعها في مساراتها الطبيعية. هناك عجز كلي عن نقدها ووضعها في مساراتها الحقيقية. الأمر لا يتعلق فقط بهذه المظاهر الحساسة ولكن بالمؤسسات الاجتماعية والقضائية والدينية والإنسانية. كل شيء بخير وعلى ما يرام، في معظم البلدان العربية، لا يوجد فيها أحد ينفصل عن هذه المنظومة المعطلة لأي فكر ولأي تنور. مؤسسة السلطة هناك والتي تتحكم في كل هذه المدارات، ولدت منزهة وبالتالي فهي فوق النقد. وكل من اقترب منها تعرض للمضايقات التي قد تصل حد الاغتيال. وننسى أن هذه المؤسسة يديرها بشر، والبشر خطاؤون، وخير الخطائين من يستمعون للنقد الذي يقوّم اعوجاجها.