بيتنا الذي يموت

بيتنا الذي يموت
ما يحدث اليوم في العالم العربي مُحيِّرٌ، وخطيرٌ أيضًا؛ لأنَّه سينسف تاريخًا قائمًا بذاته، ظننا إلى وقتٍ قريب أنه بيتنا، ومآلنا الأخير عندما تظلم الدنيا، ويجتاح البلاد البرد والعواصف، المعمية لكل فرح. الوطن الصغير، أو الكبير، أو الوطن اللغوي، أو الوطن الحضاري، بيتٌ واقٍ من مخاطر اليأس والخوف. الوطن الحي ليس صخرةً أو كتلةً، أو بلاغةً، أو استعارةً لغويةً مضخمةً؛ مثل الفقاعة المعرّضة للانفجار في أية لحظة، للتحوّل إلى فراغ، وأقل من قطرة ماء، لكنّه حقيقة تُلمس كل يوم، وفي كل مكان، في البيت، في الإدارة، في مركز الشرطة، في القضاء، تُلمس في حنانهِ وحبّهِ واحترامهِ لنا، وفي دفاعه عن حقوقنا وحرياتنا. لكن هذا البيت الذي منحنا كل ما يجعلنا نُحبّه، ونغضب منه عندما ينسانا، يتهدّم اليوم أمام أعيننا، ونحن في حالة عجز تام تُشبه اللحظة التي تسبق الموت، مثل المندهش الذي تخلّت عنه لغته التي شكّلت كل وجدانه، يرى كل يوم شيئًا يسقط منه، وكأنَّ الأمرَ لا يعنيه. بل يلتفت من حينٍ لآخر صوب سماء لا تمنحه إلاَّ غيمًا جافًّا كالحطب، أو يندفن تحت تُربة مُتفحّمة لكي لا يرى شيئًا، متجاوزًا عجز النعامة التي دفنت رأسها قليلاً في الرمل؛ قبل أن تُواصل ركضها، لأنها عرفت أن سلطان نجاتها في ساقيها. تنطبق عليه حكاية جحا عندما قيل له وهو بعيد عن بيته: في قريتك نار يا جحا، وعليك أن تعود لتساعد الناس على إطفائها. قال: بيني وبين ناسها خلاف قديم، لا شأن لي بهم. المهم أن الحي الذي أسكنه بسلام. حتى جاء من يقول له: النار وصلت إلى حيّك يا جحا، فأجاب: لست معنيًّا به، حي بائس ومُتخلِّف، المهم بيتي. في الطريق أخبره أحدهم: النار امتدت الآن إلى بيتك. لم يتردّد كثيرًا، فقال لمُخاطبه: بيت متهالك، ليس خسارة. المهم رأسي وما عداه لا يعنيني. لكن ما سكتت عنه الحكاية، هو أنه عندما جاء من يقول لجحا: إن النار نشبت في رأسك، كان كل شيء قد انتهى. ينطبق هذا بالضبط على العالم العربي. كل شيء يموت ويختنق، ونحن في حالة خواء وعجز كلي، كأن العقل مُعطَّلاً كليًّا عن أي تفكير، والعين لا ترى الحرائق التي بدأت تنشب فيها. بأيدينا نسهم في التدمير الذاتي بدون أي تفكير داخلي. سقط العراق الحضاري، عراق الإنسان وليس عراق الطغيان، قلنا سنتّعظ في المرات القادمة. وجاءت المرات القادمة بسرعة ولم نتغيّر. انشطر السودان إلى جزءين مسيحي ومسلم، ومُرشَّح لانقسامات قبلية قد تكون كارثية، ودائمًا كأنَّ شيئًا لم يحدث. ومات يمن التاريخ، وحل محله يمن الطائفة، والموت اليومي. ثم جاء دور سوريا فكانت أسوأ حظًّا من العراق، إذ تم تفكيك أوصالها، وأيقظت فيها النّعرات القديمة، والإثنية والعرقية والطائفية، ونسينا أن هذه النار تحديدًا يُمكنها أن تحرق البيت العربي كله، ولن يسلم منها أحد. ينهار البيت العربي وما ينتظرنا أسوأ، مشكلة الماء التي لم نحضر لها شيئًا. يتهاوى أمام أعيننا ويُشرَّد ساكنوه منذ قرونٍ خلت، وكل ما فعلناه بشطارة منقطعة النظير، أننا فتحنا الإذاعات والقنوات عن آخرها، ورُحنا نكيل التهم للغرب الذي يصد الهاربين نحوه. ونلوم الهارب الذي ترك بعضه، أو نصفه، أو كله في البحر، كيف يترك أرضه وبيته ويذهب نحو غرب يهينه؟ كيف نلوم غربًا استقبل الآلاف ويحاول أن يجد الحلول، وننسى أن معظمنا قد أغلق العقل والحدود المسدودة أصلاً في وجه كل الهاربين من نيران الحروب، وفزع الضباع؟ لو فقط اتعظنا قليلاً، واستحيينا أمام رئيس وزراء فنلندا الذي استقبل في بيته عائلات سورية، وأعلن رسميًّا أنه خياره كمواطن فنلندي.

أخبار ذات صلة

شهامة سعودية.. ووفاء يمني
(مطبخ) العنونة الصحفيَّة..!!
رؤية وطن يهزم المستحيل
ريادة الأعمال.. «مسك الواعدة»
;
هل يفي ترامب بوعوده؟
رياضة المدينة.. إلى أين؟!
جيل 2000.. والتمور
التراث الجيولوجي.. ثروة تنتظر الحفظ والتوثيق
;
قصَّة أوَّل قصيدة حُبٍّ..!
حواري مع رئيس هيئة العقار
الحسدُ الإلكترونيُّ..!!
مستشفى خيري للأمراض المستعصية
;
الحُب والتربية النبوية
سلالة الخلايا الجذعية «SKGh»
التسامح جسور للتفاهم والتعايش في عالم متنوع
التقويم الهجري ومطالب التصحيح