الكاتب صياغة كونية
تاريخ النشر: 22 أكتوبر 2015 01:55 KSA
ما الذي يميّز كاتبًا عن آخر؟ هل هي الشهرة، الموضوعات، سلطان الكتابة، كثرة الاعترافات الدولية والجوائز التي تنام على الحيطان، أو في الخزانات التي احتوت كل جهده.. أم شيء آخر؟؟ أنا مع ذلك الشيء الآخر الذي لا يمكن لمسه، ولا أعتقد أن شيئًا ما يضاهيه بالنسبة للكاتب؛ لأنه هو هويته الأساسية. مثلما للعالم هويته التي ترفعه إلى أعلى المقامات، وهي اكتشافاته واختراعاته ومنجزه العلمي، هوية الكاتب في هذا السياق هي وطنه. ليس الوطن المشترك الذي يتقاسمه مع الجميع لأن به تربة الأجداد ورفاتهم وحكاياتهم القديمة التي ما تزال تسري في الذاكرة الجمعية. هذا ملكية جماعية ليس لأحد حق احتكارها، وحرمان الآخرين منها، مهما كان مقامه أو رتبته، نملك كل شيء إلاّ التربة فهي للميت والحي. طبعًا الذي أقصده ليس هذا لكن وطنًا آخر. وطن لا يمكن أن يوجد إلاّ عند واحد. هو من يشكله ويمنحه الحياة والاستمرارية حتى حينما يدق ناقوس الموت على أبوابه. طبعًا للوطن العام مكانة حيّة ومهمّة في وجدان الكاتب، لكن مع الزمن والخبرة يغتني الوطن المادي بوطن آخر هو وطن الكتابة. الوطن الافتراضي الأوسع والأكثر شمولاً. فالكاتب في النهاية هو ابن هذه الأرض بمآسيها وإنسانيتها أيضًا. فهو من يقوم بتشكيلها إبداعيًّا وفنيًّا، ويختزل مسافاتها في ظل إعلام متحرك ونشيط، سهّل وسائل الاتصال ومنحها دفعًا قويًّا لم يكن متوفرًا من قبل. الأرض ضاقت وصغرت حتى أصبح بالإمكان عبورها في ساعات فقط. فكل كاتب في عصرنا لم يعد ملكية ضيقة لتربة أو لحدود، هو صياغة كونية. عبارة عن صناعة ثقافية متعددة يتداخل فيها المحلي الخاص والضيق، بالعالمي المفتوح على الإنسان أينما كان. الكاتب المميّز هو من يختار وسيلته التعبيرية الأقرب إلى تكوينه الخاص ومساراته الثقافية وذاكرته. لا شيء ينزل من السماء إلاّ ما تصنعه الإرادات البشرية بإمكاناتها الإبداعية الخلاقة. تلعب التجارب المعاشة دورًا مهمًّا في تحديد القيمة الفنية والهوية الإبداعية. المنافي الاختيارية أو الإجبارية بكل توتراتها وصعوباتها، تمنح هذه المواطنة اتساعًا وامتدادًا وتخرجها من الحدود. في المنفى الإجباري مثلاً، يجد الكاتب نفسه بين خوفين قاسيين: إمّا أن يدخل في دائرة الحزن ويموت في العزلة، وهذا حتمًا مسلك مأزوم، أو يحاول أن يكون استثنائيًّا داخل التراجيدية الخاصة، فيختار الطريق الأصعب الذي يمنحه فرصة تحويل قسوة المنافي إلى حياة موازية وغنية. أينما وُجِد الكاتب، فالدائم فيه هو الإنسان وليس شيئًا آخرَ. الإنسان الذي يرفض أن يموت أو يبتذل مثلما حدث مع سرفانتس ودون كيخوتي. هذا الوعي الإيجابي يساعد الكاتب على صناعة مواطنة بمواصفات جديدة، مواطنة ملتصقة بأرضها الأولى، ولكنها تنتمي في الوقت نفسه، إلى مواطنة عالمية يشترك فيها مع الكثيرين خارج الجنسيات الضيقة: مواطنة الكتابة. ما الذي يجعلني اليوم كقارئ عربي، في آخر الدنيا، قريبًا بقوة من نصوص الياباني موراكامي؟ أو الإسباني مانويل ريفاس؟ أو الصيني يان مويا؟ أو من فارغاس يوسا الأمريكي اللاتيني؟ أو من حرير الروائي الإيطالي ألكسندر باريكو؟ لقد أصبح العالم صغيرًا ومركبًا أيضًا، وشديد التعقيد. وهذا يدفع بنا إلى رؤية كل شيء بالكثير من التواضع والتبصّر والتأمّل. نحن لا نساوي الكثير أمام هذا العالم المعقد. لا نزن أكثر من أحرفنا ومدادنا وأوراقنا. عندما يقول قارئ أو قارئة عبر العالم، لكاتبه المفضل: يا سيدي لقد عبّرت عمّا بداخلي، يزيد يقيني بأن الإنسان واحد، ووطن الكتابة أيضًا واحد، على تعدديته الثقافية واللغوية. أن تسمع مثل هذا الكلام هذا يعني أنك في دائرة الإنساني والمشترك. فالحياة التي نعيشها اليوم بسرعة مدوخة، تمنح الكتابة نفس السمات الخاصة التي تجعلها تفجر الحدود، وتنتمي إلى وطن أوسع من الوطن القومي، وطن الكتابة.