مدرسة آل عبداللطيف التاريخية بالأحساء حاضرة علمية منذ مئات السنين
تمتاز الحركة العلمية في الأحساء بالعراقة والقدم، فقد امتدت جذورها إلى القرن الأول الهجري، ثم أخذت في النمو والازدهار، وشهدت عبر تاريخها عطاءات علمية وإبداعات ثقافية جعلتها موطن علم يؤمها الطلاب للتزوّد بالعلم، وأخذت الإجازات عن علمائها البارزين وأنجبت أعلامًا كانوا شموسًا مضيئة في سماء الفكر، ونذروا أنفسهم في خدمة العلم وطلابه وحفروا أسماءهم في ذاكرة التاريخ، وقد أصبحت المدرسة الأحسائية في تلك الفترة الذهبية واحدة من سبع مدارس علمية رائدة على مستوى العالم الإسلامي، فقد قال الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام -رحمه الله- «لا يبلغ طالب العلم كماله حتى يتخرج أو يحضر دروسًا في سبع مدارس في سبعة بلدان: مدرسة الدويحس في الزبير، ومدرسة آل أبي بكر في الأحساء، ومدرسة الألوسي في بغداد، والأزهر في مصر، ومدرسة المرادية في دمشق». وتُعدُّ مدرسة آل عبداللطيف من أشهر مدارس الأحساء الشرعية، وقد تميّزت بمكانة علمية وتاريخية وسياسية كبيرة خلال القرنين الثالث والرابع عشر الهجري؛ فقد قصدها العديد من الطلبة لتلقي العلم فيها، وتنتسب أسرة آل عبداللطيف إلى بني هلال من عامر صعصعة فهي أسرة هلالية عامرية قيسية مضرية من أقدم الأسر الموجودة في الأحساء، وأن جميع أفراد الأسرة علماء ومشايخ وأدباء نابغون، ومن أشهر أفرادها الشيخ عبدالله بن محمد آل عبداللطيف الشافعي الصغير، وكان معاصرًا للشيخ محمد بن عبدالوهاب، فقد قصده الشيخ محمد بن عبدالوهاب ونزل بيته وأخذ العلم عنه، وبعد خروج الشيخ ابن عبدالوهاب كانت بينه وبين الشيخ عبدالله آل عبداللطيف مراسلات مشهورة، ومنهم الشيخ عبداللطيف، وأحمد ابنا عبدالله آل عبداللطيف، والشيخ محمد بن أحمد آل عبداللطيف، وكان للمدرسة مكانة متميّزة لدى ملوك الدولة السعودية الثانية، حيث وجه الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله- إلى محمد وأحمد ابني الشيخ عبدالله بن محمد بن عبداللطيف -رحم الله الجميع- يقرهما على التدريس في المدرسة.موقع المدرسة تقع مدرسة آل عبداللطيف للعلوم الشرعية في محافظة الأحساء بالهفوف في حي المرابدة التابعه للكوت، بالقرب من قصر إبراهيم الأثري، وأن الشيخ عبدالرحمن بن راشد بن خليفة آل فاضل من أهالي البحرين أوصى ابن عمه الشيخ مبارك بن خليفة ليوقف مدرسةً شرعيةً في حاضرة الأحساء، وبالفعل سافر الشيخ مبارك بن خليفة إلى الأحساء لهذا الغرض واختار أسرة آل عبداللطيف المشهود لها بالعلم الشرعي فأوقف على يد الشيخ عبدالله بن أحمد بن عبدالله المدرسة، وعددًا من الأوقاف عليها ومنها «الأطعام، السميطية، الزغيبي، العياشي، العارض»، وقد اقتُطع جزء كبير منها في افتتاح شارع الكوت عام 1391هـ، وكانت مكوّنة من ثلاثة أروقة غربي وشرقي وشمالي، بالإضافة إلى غرفة شمالية، وبئر ماء وكان التدريس صيفًا في الرواق الغربي، وشتاءً في الغرفة الشمالية، وكان بناؤها على الطراز القديم، وقد أعيد بناؤها في عام 1422هـ بإشراف الشيخ أحمد بن عبدالله آل عبداللطيف إمام وخطيب جامع النوري في الخالدية، بمساعدة أخيه عبدالرحمن بن عبدالله آل عبداللطيف، وقد تم تجديدها في عام 1433هـ بإشراف مجلس أوقاف أسرة آل عبداللطيف، وتعتبر واحدة من مدارس الكوت التي منها مدرسة القبة، والتي تم بناؤها في عام 1014هـ ومدرسة الشلهوبية في عام 1183هـ، ومدرسة آل عمير في عام 1167هـ، ومدرسة آل ملا في عام 1292هـ، ومدرسة آل عثمان في عام 1236هـ، ومدرسة القرآن في عام 1295هـ، والمدرسة القبلية في عام 1275هـ، ومدرسة آل هاشم 1272هـ، ورباط آل ملا 1284هـ، ومدرسة المعلم التابعة لمسجد الفاتح 962هـ.ويقول لـ»المدينة» الشيخ عبدالرحمن بن أحمد آل عبداللطيف مشرف مدرسة آل عبداللطيف للعلوم الشرعية بأن الأحساء تعتبر حاضرة علمية منذ مئات السنين، وقد كان لها دور كبير في نشر العلم والثقافة في الجزيرة والخليج العربي قبل التعليم النظامي، حيث إنه لم ينتصف القرن الحادي عشر الهجري إلاَّ والأحساء تمثل موطنًا أصيلاً مميّزًا للعلم، ومقصدًا لطلابه، فأنشأت فيها المدارس العلمية، وبنيت فيها الأربطة السكنية، وكثر فيها المتصدّرون للتعليم الشرعي، وممّن شهدوا بهذه المكانة العلمية العالية للأحساء من العلماء الوافدين عليها الشيخ العلامة محمد بن أحمد العمري الموصلي -رحمه الله- والذي توفي عام 1212هـ. ويضيف «الشيخ عبدالرحمن» أن من العلماء الذين قدموا الأحساء في القرن الثاني عشر الهجري، واستوطنوا فيها لسنوات طويلة، أشادوا بما تزخر به من العلم والأدب ومنهم الشيخ عبدالله بن محمد البيتوشي الكردي، وهو أحد العلماء الكبار الذين جمعوا بين الشريعة والأدب، ولما طاب له المقام في الأحساء، أرسل رسالة أدبية رائعة لشيخه في بغداد الشيخ عبيدالله أفندي بن صبغة الله أفندي الحيدري، وكان ممّا جاء فيها «وحالَ التاريخ أني في الأحساء، أتقلّب في روضٍ من العيش أرِيض، وأتبختر في بُردٍ من العافية طويلٍ عريض، بين سادة سمحاء، يكرمون ولا يمكرون، ويطعمون ولا يطمعون، ويبهرون ولا يرهبون، ويبتكرون ولا يرتكبون، لا تملّ مناجاتهم، ولا تخشى مداجاتهم، إلى أخلاق في رقة النسيم، ومحاورة في عذوبة التسنيم، لا تكبو في حلْبة الفخار جيادُهم، ولا تصلد في مشاهد النوال زنادهم، ثابت لديهم كما أبتَغِي قدمي، مُجْرى عندهم ما نَفَثَت به فمي أو كتبه قلمي: لا عيبَ فيهم سوى أن النزيلَ بهم يسلو عن الأهلِ والأوطانِ والحشمِ». أبرز من تولى التدريس ويعتبر الشيخ عبدالله بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن عبداللطيف، والشيخ أحمد بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عبداللطيف، والشيخ محمد بن عبدالرحمن بن عبدالله بن محمد آل عبداللطيف، والشيخ محمد بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن محمد آل عبداللطيف «قاضي المحكمة الشرعية بالأحساء سابقًا»، والشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله آل عبداللطيف، والشيخ عبداللطيف بن عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله آل عبداللطيف «قاضي المحكمة الشرعية بالمبرز سابقًا» من أبرز مَن تولّى التدريس في هذه المدرسة، وقد حُددت وثيقة وقفية المدرسة الموضوعات التي تدرس فيها وهي «الحديث، التفسير، الفقه، وما ألحق بذلك من سائر العلوم الشرعية، عين التدريس فيها وولاية النظر من أسرة آل عبداللطيف، وشرط على المدرس التدريس فيها كل يوم، كما حددت أيام الاجازات في المدرسة بعذر شرعي أو عرفي، وكذا في الأيام التي جرت بها العادة بترك الاشتغال فيها الثلاثاء والجمعة ورمضان وأيام الأعياد وصرام التمر، وكذا لأجل الحج إلى بيت الله الحرام ومسجد رسول الله .وذكر الدكتور عبداللطيف بن عبدالله آل عبداللطيف مدير وحدة تطوير المدارس بإدارة التعليم بالأحساء، بأن أروقة المساجد وابنية المدارس والمجالس كانت مليئة بطلاب العلم يقرؤون الكتب ويناقشون المسائل ويقررون المباحث العلمية، وكانت بيوت العلماء تزخر بالمخطوطات العلمية في الفقه والحديث والتفسير والأصول والنحو والفلك والطب والتاريخ والأدب، والحقيقة التي لامراء فيها أن الأحساء كنز علمي لم تكتشف مكنوناته كلها وتحتاج إلى دراسات جادة معتمدة على الوثائق والمخطوطات، ولن يتيسر ذلك إلا إذا هم طلبة العلم في الأسر الأحسائية بجمع التراث العلمي الأحسائي وترتيبه وتصنيفه وإظهاره للناس حتى يحفظ من التلف والضياع ويقف الناشئة من أبناء الأحساء وغيرهم على ماقدمه أجدادهم في إثراء العلم.في عيون المؤرخين وأفاد المؤرخ الشيخ محمد سعيد الملا أن المدرسة تقوم بدور بارز للتعريف بتاريخ الأحساء والتعليم فيها، وذلك من خلال عقد بعض الندوات واللقاءات واستقبال الزوّار والباحثين، إضافة إلى عدد من الندوات والدروس لمجموعة من أساتذة كلية الشريعة وجامعة الملك فيصل بالأحساء، وهناك الكثير من المخطوطات العلمية التي تثبت بداية الخارطة التعليمية في الأحساء ومنها: نصب الشيخ أحمد بن عبدالله على والذي أقرّ فيها مدرسة علي باشا 1187 و1199 هـ ليقرأ الطلبه فيها، ونصب الشيخ عبدالله بن أحمد على تعيين الشيخ عبدالله بن أحمد بن عبداللطيف في المدرسة الباشوية 1234هـ، ونصب الشيخ أحمد بن محمد بن عبدالله على المدرسة الحالية 1313هـ، ولقد رصدت الاحساء عددا كبيرا من العلماء وطلبة العلم الذين قصدوا مدارس الأحساء لطلب العلم بها، أو التدريس فيها، وهذه مكانة توضح شهرة الأحساء لدى الأقطار الأخرى والمناطق داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها.