بيت على ضفاف الرانوناء
تاريخ النشر: 17 أبريل 2016 01:28 KSA
كان البيت الذي اشتراه والدي -رحمه الله- في المدينة المنورة بعد تقاعده، يقع على ربوة بين المزارع التي تبعد عنه شرقًا مسافة مئتي متر، وبين طريق قباء النازل الذي يبعد عنه غربًا مسافة ثلاث مئة متر تقريبًا، كما كان قريبًا من القلعة الأثرية المشهورة، إلا أنه كان من الناحية الشرقية للطريق والقلعة كانت غربه، وكان البيت في منتصف المسافة تقريبًا بين مسجد قباء، وحي باب قباء حيث يقع مسجد سيدنا عمر بن الخطاب في منحنى الطريق عند الجسر الصغير الذي يمر من تحته سيل بطحان «أبو جيدة» متجهًا إلى السيح.سكنّا سنين عديدة في ذلك البيت الذي كان في مكان قصي، لا يسكن بجوارنا أحد، حيث لا بيوت بجوارنا غير بيت مهجور غير مسكون، مع أنه فخم وجميل، وكان زوارنا يتحاشون زيارتنا بعد غروب الشمس. كانوا يقولون لنا أنتم في «مقطعة» ولا يجرؤون على مشي الثلاثمئة متر من الخط المزفّت لطريق قباء إلى بيتنا خشية هجوم الكلاب الكثيرة عليهم، وقد كانت معاناتنا كبيرة معها عند بداية سكنانا بالبيت، خاصة عندما كنّا نأتي بعد صلاتي المغرب والعشاء أو بعد إتمام النشاطات المدرسية في طيبة الثانوية، بيد أنه بمرور الوقت ألفت الكلاب رائحتنا، فأصبحت لا تُبالي بدخولنا وخروجنا في الليل، ولا تهجم علينا ولا تنبح. بمرور الزمن بدأ يزداد بناء البيوت بالقرب منّا ومن حولنا، حتى جاء اليوم الذي استحوذ أحدهم على مخطط أمام بيتنا في منتصف مجرى سيل «الرانوناء» التاريخي الشهير، فبدأت معاناة الوالد بتنبيه الناس بأن الأراضي التي يبنون عليها مساكنهم تقع في مجرى السيل الكبير، لكنه خسر كل معاركه الكثيرة سواء أكانت بالشكوى للجهات المختصة أم بتنبيه البانين بيوتهم، فلا البلدية ألغت المخطط ولا الناس استمعت لتحذيره، فتطاول البنيان واختنق البيت والحي بالمباني السكنية، ولم نعد نشاهد القلعة الأثرية من النافذة، ولا طريق قباء، ولم يعد يأتي النسيم البارد العليل من ناحية الغرب في الليالي الجميلة، فانتقل الوالد بنا إلى مسكن بالإيجار أقرب منه إلى الحرم. في كل يوم تتساقط فيه الأمطار بشدة أتذكر قوة سيل العقيق وسيل بطحان بالمدينة، وسيول الطائف في سنين الصبا بهديرها وضخامتها وسلامة الناس من حولها، ثم أتذكر سيول جدة وغيرها في السنوات الأخيرة التي جرفت الناس والممتلكات والمخططات، وكلما هطلت الأمطار الكثيفة التي عمّت مناطق عديدة في المملكة هذا العام، يرتجف قلبي ويندهش عقلي، فكيف ما يزال يتكرر التصريح بالبناء في مجرى السيول لتجرف المخططات والناس والبنى التحتية والممتلكات؟.