هراء في عالم أليس !
تاريخ النشر: 14 ديسمبر 2016 10:15 KSA
هناك قصيدة عبثية شهيرة عنوانها (الجابرواكي) أطلقها لويس كارول أستاذ المنطق والرياضيات في جامعة أكسفورد في منتصف القرن الثامن عشر في قصته الشهيرة (أليس في بلاد العجائب)، في هذه القصيدة، تبدو اللغة التي افتعلها الكاتب هراء غزيراً ومتدفقاً من الجمل المليئة بالأفعال والأسماء والصفات الغريبة على اللغة الإنجليزية. أسلوب كارول يشبه هذيان المَعاتيه، وذكاء القصيدة يكمن في المتعة والنكتة التي نشعر بها حين يأتي هذا الاستخفاف بالمنطق اللغوي من شخص متخصص في المنطق ذاته.
يلعب كارول بالكلاشيهات الشعبية لقصص الصبيان الشجعان والكائنات الأسطورية والظفر برؤوس الوحوش لكنه أيضاً يعبث بالكلمات ويضيف حروفاً غير مهمة ويضع فواصلَ بطريقة حرة وعشوائية ليصنع نموذجاً متمرداً يعطي انطباعاً بالطلاق النهائي مع البناء التقليدي للجمل من خلال مفردات غيرمعروفة.
حين رحلت أليس عبر المرآة وفي هذا العالم الذي استحوذ على مخيلتها، يبدو أنه يمكن خلق المفاهيم واختراع الدلالات التي تحيل إليها بحسب الحكم الخاص على الأشياء، لكن أليس في الحقيقة أتت من عالم حقيقي حيث الاسم الذي نطلقه على الشيء هو (الاسم الصحيح)! عالم تسيطر فيه اللغة المنتظمة وتستحوذ عليه مفردات محسوبة على المعنى هدفها التواصل، لذا فهي تقلل من شأنه وتلغي خصوصيته و تضعف قوته ، حاولت أليس، استخدمت المرآة علها إن عكست الكلمات أن تتمكن من قراءة القصيدة، فهمتها بشكل تقريبي لكنها لم تستطع فهمها بالحس التقليدي للفهم ، قالت إن الجمل تملأ رأسها بالأفكار لكن الطريقة التي تدربت بها على فك شفرة الكلمات في عالمها الحقيقي لا تتناسب مع قصيدة من هذا النوع. لم تستوعب أليس طقوس اللغة الجديدة حيث أن الاسم إذا تغير في عالم عبرالمرآة باسم آخر وتم التخلي عن الاسم الأول المعروف لديها، فإن الثاني لن يكون أقل صواباً منه، كأن الأشياء في هذا العالم ليس لها طبيعة جوهرية مشتركة تتمثل داخل عالم الأفكار ويتشاركها الجميع بنفس القدر من الدلالة.
رغم ذلك قد يكون الأمر بالعكس، فالترابطات التي خلقتها أليس لتفهم المعاني تعيد إلينا السؤال القديم: هل ثمة شيء ما قبل اللغة؟ هذا السؤال الذي يجيب عليه أرسطو بنعم يقع عالم الأفكار وراء اللغة، وأن الفكر كلي وأن الحوار الذهني، أو الحوار الداخلي، أو الحوار الجليل الذي تمارسه الروح،هو الذي أعطى لأليس ولقارئي القصيدة معياراً ذهنياً للفهم، ربما!
كيف فهمت أليس؟ كيف تراكمت الأفكار في رأسها وتمكنت هذه اللغة الهرائية من تكوين الأحداث في ذهنها فعرفت أن (الجابرواكي) مخلوق شيطاني وأن هناك أباً في القصيدة يعلم ابنه كيف يقضي على هذا المخلوق وأن الابن عاد منتصراً كما يعود الأبطال الأسطوريون من معاركهم ضد التنانين، كيف استوعبت كل ذلك بمجرد خربشات ملفقة بالحروف جعلت خيالات وأفكاراً تظهر في عقلها؟
ربما كان يكفي أليس بعض التلميحات في اللفظ حتى تخلق ترابطاتها الخاصة فأسلوب الكاتب في الحقيقة لن يعدو أن يكون تكنيكاً مخترعاً يقترح فيه حبكة ما مألوفة في سياقها الأدبي في عالم أليس الحقيقي!
لكن كارول فعل أكثر من ذلك، لقد حرص أن يتبع القواعد اللغوية المعروفة وحافظ على أساسيات النظام اللغوي ليساعد أليس ويساعدنا على الاسترسال وتكوين جرس اللغة. كارول اعتنى بالهيكل وهندسة المحتوى والرثم بحيث تصبح قصيدته معتبرة الصوت اللغوي، هذا ما يجعل الخطاب في القصيدة رغم أنه يلتف على اللغة التقليدية إلا أنه يظهر قواعد مألوفة في صورة كلمات مستحدثة يمكننا فهم سياقها كما قالت أليس: أفهم أن أحدهم قد قتل الآخر.
في قصيدة من هذا النوع لن نتمكن من الوصول لمعنى حرفي يشرح المضمون ولا نملك خياراً سوى الحوار مع النص وخوض المغامرة التأويلية، كأن الكاتب يجبرنا على التفاعل ويحرضنا على الخيال السريالي الذي يحتاج إلى مؤول فاعل يساهم في خلق المعنى.
يخبرنا كارول أيضا أنه يمكننا أن نغامر حتى لا نظل سجناء اللغة التي هي بذاتها حبيسة للزمان والسياق ومنهزمة بحتمياتها الحالية ومفاتيحها الآنية لذا فهي لن تحمل معناها الكامل أبداً.
لابد أن نغامر ونضع حاءً لا نحتاجها هنا، أو باء زائدة عن موضعها هناك، أو نلعب بالكسرة بدل التنوين ونأخذ هراء اللغة على محمل الجد ، وإلا فقد نموت قبل أن نعرف الاسم الحقيقي لليوم الذي نعيش فيه والغد الذي ننتظره.