رجال في دوامة حب مي زيادة (3)
تاريخ النشر: 27 أبريل 2017 01:07 KSA
شيخ الأزهر مصطفى عبدالرازق، الاستسلام
لسلطان الحب..
لم تكن مي خارقة الجمال، لكنها كانت ساحرة بشهادة كل من كانوا يحضرون صالونها يوم الثلاثاء. لها سطوة غريبة على كل من يقترب منها. فهي تجمع بين سحر شرق سكنها بعمقه وثقافته، وجاذبية غربية تبنتها ثقافيًا وعاطفيًا. فقد أتقنت لغات أجنبية عديدة، وكتبت ببعضها كالفرنسية والإيطالية والألمانية، أو ترجمت عنها. وكان لها في هذا الفضاء سلطان كبير. لا عهد للجماعة المحيطة بامرأة قوية ملكت خصلة الثقافة والجمال الهادئ، والجرأة، والقدرة على التواصل بالناس بلا حواجز اجتماعية ثقيلة. امرأة مثقفة، وأنوثة فائضة، وذكاء حاد، لابد أن يترك ذلك أثرًا فيمن يحيط بها. لكن أن تثير «مي» أعماق شيخ أزهري قبل أن يصبح شيخًا للأزهر كله (1945-1947) ووزيرًا للأوقاف العديد من المرات، فهذا لم يكن معهودًا أبدًا. المتتبعون ينسون عاملين حاسمين: النوازع البشرية الطبيعية التي كثيرًا ما تكون خارج الانضباط الإرادي. وسلطان الثقافة والحرية. لم يكن الشيخ مصطفى عبدالرازق رجل دين فحسب، فقد كان مشبعًا بثقافة عصره، بالخصوص الثقافة الفرنسية التي ناقش بها رسالة دكتوراه عن الشافعي، في جامعة ليون. التي يدين لها بالكثير. وفي هذا يشترك مع مي التي لم تحب الثقافة الفرنسية وحسب، ولكنها كتبت بها في بداية حياتها الإبداعية (ديوان أزاهير). وقد كان الشيخ العاشق يجد لذة في الحديث معها في النصوص الفرنسية الكبيرة، على هامش جلسات الصالون. أعتقد جازمًا أن العامل اللغوي والفني له أثر كبير في تنامي هذه العلاقة. عشقه لمي هو حبه لحريتها وثقافتها وفنها أيضًا، موقفه من الفن يبين كم كان الرجل متفتحًا. يقول في هذا السياق: إن الفن يفيد الإنسان في البحث عن قيم الحياة، لأنه إحساس نابض في الوجود من قيم جمالية يعمل الفنان على إبرازها. إن الذين يتوهمون أن الدين يعارض الفن يدلون على أنهم يسيئون فهم طبيعة الدين وطبيعة الفن. إن المسلمين الأوائل أدركوا علة تحريم بعض الفنون كالأمر مثلًا بعدم الرسم أو النحت خشية أن يرتد الناس إلى عبادة الأصنام، فلما زالت العلة وزال الخوف من عبادة الأصنام، زال التحريم. كان الشيخ مصطفى عقلًا متفتحًا، لكن أعداءه لم يرحموا تفتّحه، وحبه للآداب، ومناداته بتحرير المرأة. تجلت العداوة بوضوح يوم أن حاورته جريدة لوموند الفرنسية في سياق ملف أعدته حول شخصيته حينما قال: إن لفرنسا مكانة كبيرة في نفسه، فقد قامت بجهود كبيرة لنشر الثقافة ما بين المسلمين، وعليها أن تستمر في تأدية دورها الثقافي. واستفحلت العداوة يوم كرمته الحكومة الفرنسية بوسام جوقة الشرف من رتبة الصليب الكبير. فهاجمته الصحافة العربية في الشام ومصر بعنفٍ شديد. لهذا اختار الصمت في حُبه لمي مدة طويلة. كان يكفيه أن يناقشها ويتأملها في الصالون. فقد كان عاشقًا نبيلًا، لم يمسسها أبدًا بكلام جارح مثلما فعل غيره. مع الوقت لم يكتف الشيخ مصطفى في عشقه لمي بالزيارات الرسمية التي كان يذهب فيها نحوها. فقد أصبح من أول الحاضرين في صالونها الأدبي كل يوم ثلاثاء منذ عام 1913، قبل أن ينتقل الصالون عام 1921 إلى إحدى عمارات جريدة الأهرام ويستمر حتى الثلاثينيات من القرن الماضي. ولم يتوقف إلا بعد فقدانها المتتالي لملهمها الأستاذ يعقوب صروف، ثم لوالدها، فجبران وأخيرًا والدتها فتصاب بعدها بانهيار عصبي قادها نحو نهاية مأساوية. ظل الشيخ يداوم ولم يتخلف أبدًا إلا في حالات الاضطرار، حتى رسمها بدقة في داخله كما النحات. وعلى الرغم من اشتعاله الداخلي لم يُسمع مي أي كلمة عشقية أو هواجسه العاطفية من شدة تقديره لها. وفضَّل الكتابة، على اللغة المباشرة للتعبير عن عاطفة قوية تجاوزت سلطان الثقافة التقليدية. كانت المراسلة من الأراضي الأوروبية وسيلته للتواصل معها، عبر من خلالها عن كل ما كان يملأه داخليًا من أحاسيس صادقة. رسالة بعث بها الشيخ مصطفى من باريس، كانت تعبيرًا عن وجدان داخلي استقر وكبر وأصبح بعدها الشيخ الأزهري غير معني بما يمكن أن يقوله عنه أعداؤه: وإني أحب باريس، إن فيها شبابي وأملي، ومع ذلك فإني أتعجل العودة إلى القاهرة، يظهر أن في القاهرة ما هو أحب إليَّ من الشباب والأمل. وكان يعنيها بشكل مباشر. ناهيك عن انغماسه في أعمالها ومتابعتها بحب وموضوعية ثابتة: إن للآداب الإفرنجية أثرًا ظاهرًا في أسلوب مي، وفي طريقة معالجتها لموضوعاتها. حتى في وفاتها كان حاضرًا بكلمة تأبينية شديدة الموضوعية وترك لنفسه ما كان يكنه لها، في وقت تنكَّر لها أغلب أصدقائها وعشّاقها من طرفٍ واحد: شهدنا مشرق مي وشهدنا مغيبها، ولم يكن طويلًا عهد مي، على أن مجدها الأدبي كان طويلًا.
لسلطان الحب..
لم تكن مي خارقة الجمال، لكنها كانت ساحرة بشهادة كل من كانوا يحضرون صالونها يوم الثلاثاء. لها سطوة غريبة على كل من يقترب منها. فهي تجمع بين سحر شرق سكنها بعمقه وثقافته، وجاذبية غربية تبنتها ثقافيًا وعاطفيًا. فقد أتقنت لغات أجنبية عديدة، وكتبت ببعضها كالفرنسية والإيطالية والألمانية، أو ترجمت عنها. وكان لها في هذا الفضاء سلطان كبير. لا عهد للجماعة المحيطة بامرأة قوية ملكت خصلة الثقافة والجمال الهادئ، والجرأة، والقدرة على التواصل بالناس بلا حواجز اجتماعية ثقيلة. امرأة مثقفة، وأنوثة فائضة، وذكاء حاد، لابد أن يترك ذلك أثرًا فيمن يحيط بها. لكن أن تثير «مي» أعماق شيخ أزهري قبل أن يصبح شيخًا للأزهر كله (1945-1947) ووزيرًا للأوقاف العديد من المرات، فهذا لم يكن معهودًا أبدًا. المتتبعون ينسون عاملين حاسمين: النوازع البشرية الطبيعية التي كثيرًا ما تكون خارج الانضباط الإرادي. وسلطان الثقافة والحرية. لم يكن الشيخ مصطفى عبدالرازق رجل دين فحسب، فقد كان مشبعًا بثقافة عصره، بالخصوص الثقافة الفرنسية التي ناقش بها رسالة دكتوراه عن الشافعي، في جامعة ليون. التي يدين لها بالكثير. وفي هذا يشترك مع مي التي لم تحب الثقافة الفرنسية وحسب، ولكنها كتبت بها في بداية حياتها الإبداعية (ديوان أزاهير). وقد كان الشيخ العاشق يجد لذة في الحديث معها في النصوص الفرنسية الكبيرة، على هامش جلسات الصالون. أعتقد جازمًا أن العامل اللغوي والفني له أثر كبير في تنامي هذه العلاقة. عشقه لمي هو حبه لحريتها وثقافتها وفنها أيضًا، موقفه من الفن يبين كم كان الرجل متفتحًا. يقول في هذا السياق: إن الفن يفيد الإنسان في البحث عن قيم الحياة، لأنه إحساس نابض في الوجود من قيم جمالية يعمل الفنان على إبرازها. إن الذين يتوهمون أن الدين يعارض الفن يدلون على أنهم يسيئون فهم طبيعة الدين وطبيعة الفن. إن المسلمين الأوائل أدركوا علة تحريم بعض الفنون كالأمر مثلًا بعدم الرسم أو النحت خشية أن يرتد الناس إلى عبادة الأصنام، فلما زالت العلة وزال الخوف من عبادة الأصنام، زال التحريم. كان الشيخ مصطفى عقلًا متفتحًا، لكن أعداءه لم يرحموا تفتّحه، وحبه للآداب، ومناداته بتحرير المرأة. تجلت العداوة بوضوح يوم أن حاورته جريدة لوموند الفرنسية في سياق ملف أعدته حول شخصيته حينما قال: إن لفرنسا مكانة كبيرة في نفسه، فقد قامت بجهود كبيرة لنشر الثقافة ما بين المسلمين، وعليها أن تستمر في تأدية دورها الثقافي. واستفحلت العداوة يوم كرمته الحكومة الفرنسية بوسام جوقة الشرف من رتبة الصليب الكبير. فهاجمته الصحافة العربية في الشام ومصر بعنفٍ شديد. لهذا اختار الصمت في حُبه لمي مدة طويلة. كان يكفيه أن يناقشها ويتأملها في الصالون. فقد كان عاشقًا نبيلًا، لم يمسسها أبدًا بكلام جارح مثلما فعل غيره. مع الوقت لم يكتف الشيخ مصطفى في عشقه لمي بالزيارات الرسمية التي كان يذهب فيها نحوها. فقد أصبح من أول الحاضرين في صالونها الأدبي كل يوم ثلاثاء منذ عام 1913، قبل أن ينتقل الصالون عام 1921 إلى إحدى عمارات جريدة الأهرام ويستمر حتى الثلاثينيات من القرن الماضي. ولم يتوقف إلا بعد فقدانها المتتالي لملهمها الأستاذ يعقوب صروف، ثم لوالدها، فجبران وأخيرًا والدتها فتصاب بعدها بانهيار عصبي قادها نحو نهاية مأساوية. ظل الشيخ يداوم ولم يتخلف أبدًا إلا في حالات الاضطرار، حتى رسمها بدقة في داخله كما النحات. وعلى الرغم من اشتعاله الداخلي لم يُسمع مي أي كلمة عشقية أو هواجسه العاطفية من شدة تقديره لها. وفضَّل الكتابة، على اللغة المباشرة للتعبير عن عاطفة قوية تجاوزت سلطان الثقافة التقليدية. كانت المراسلة من الأراضي الأوروبية وسيلته للتواصل معها، عبر من خلالها عن كل ما كان يملأه داخليًا من أحاسيس صادقة. رسالة بعث بها الشيخ مصطفى من باريس، كانت تعبيرًا عن وجدان داخلي استقر وكبر وأصبح بعدها الشيخ الأزهري غير معني بما يمكن أن يقوله عنه أعداؤه: وإني أحب باريس، إن فيها شبابي وأملي، ومع ذلك فإني أتعجل العودة إلى القاهرة، يظهر أن في القاهرة ما هو أحب إليَّ من الشباب والأمل. وكان يعنيها بشكل مباشر. ناهيك عن انغماسه في أعمالها ومتابعتها بحب وموضوعية ثابتة: إن للآداب الإفرنجية أثرًا ظاهرًا في أسلوب مي، وفي طريقة معالجتها لموضوعاتها. حتى في وفاتها كان حاضرًا بكلمة تأبينية شديدة الموضوعية وترك لنفسه ما كان يكنه لها، في وقت تنكَّر لها أغلب أصدقائها وعشّاقها من طرفٍ واحد: شهدنا مشرق مي وشهدنا مغيبها، ولم يكن طويلًا عهد مي، على أن مجدها الأدبي كان طويلًا.