بيان المعاني المتطورة لعبارة «بَلا حميرة»!

دَائِماً أَشعُر بالذَّنب عِندَما يَعتَدي أَحَد عَلَى الحيَوَانَات، سَوَاء مِن خِلَال الضَّرب أَو «التَّجويع»، أَو مِن خِلال الشَّتْم، وجَعلهَا مِثالاً لهَذه الخِصلَة الذَّميمَة أَو تِلك..!

ومُنذ نعُومة أَفكَاري وشَقَاوة طفُولتنَا، كُنَّا فِي حَارِتنَا «حَارة الأَحَامِدَة» فِي المَدينَة المُنيرَة -عَلى سَاكن ثُرَاهَا الصَّلاة والسَّلَام- كُنَّا صِبية تَستَحوذ عَلينَا الشَّقَاوَة، وتَتحكَّم بِنَا الأَذيَّة، التي كَانت الحيوَانَات ميدَانها، والبَهَائِم ضَحَايَاهَا..!


وأَذكُر أَنَّ الحِمار؛ كَان لَه «نَصيب الأَسَد» مِن تِلك الأَذيَّة، وكُلَّما شَعرنا بالاضطهَاد مِن أَهلينَا، وبَعض مُعلِّمينَا، أَفرَغنَا غَضبنَا عَلى الحيَوَانَات، ولَا عَجَب فِي ذَلك، لأَنَّ النَّظريَّة التي كُنَّا نَتّبعها هِي: «خُذ ثَأرك مِن جَارك»..! ولَا تَزال العَين تَتذكَّر مَشهد ذَلك الحِمار المِسكين، الذي وَضعنَا فِي أُذنه اليُمنَى؛ خُنفسَاء صَغيرة، فشَعر الحِمار أَنَّ شَيئاً مَا يَتحرَّك فِي أُذنهِ، فأَخَذَ يَجري ويَجري، رَغبةً فِي إسقَاط مَا فِي أُذنهِ، وكُلَّما خَفَّف الجَري، تَحرَّكت الخُنفسَاء، فزَاد الحِمَار جَريه، واستَمرَّ عَلى هَذه الحَالَة، حَتَّى فَارَقت روحه الحَيَاة، ونَحنُ نُقهقه ضَاحِكين..!

هَذا الإجرَام الذي صَدَر مِنَّا بحَق الحَيوَان، جَعلني أُنصِّب نَفسي مُحَامياً للحَيَوَانَات، وبالذَّات الحِمَار، الذي نَاله التَّعَب والعَنَاء مِنَّا، ومَع هَذا ظَلَّ صَامِتًا صَابِرًا، ولَكنَّه كَمَا يَقول عَنتَرَة:


لَوْ كَانَ يَعْلَمُ مَا المُحَاوَرَةُ اشْتَكَى

وَلَكَانَ -لَوْ عَلِمَ الكَلاَمَ- مُكَلِّمِي!

ومِن خِلَال عَملي كمُحامٍ للحِمَار، كَانِت عِبَارة «بَلا حَمْيَرَة» -التي تُطلَق عَلَى مَن لَم يَفهم مِن البَشَر- تُزعجني، وتُوجع أُذني كُلَّما سَمعتها، إذْ أَعتبرهَا اعتدَاءً صَريحاً عَلَى مَكَانة الحِمار، وشَتمه بالذي لَا يَليق بِهِ؛ مِن الغَبَاء وضَعف الحِيلَة..!

لقَد سَهرتُ اللَّيالِي أَبحَث عَن مَخرج لُغوي، يُبرّئ الحِمَار مِن هَذه التُّهمَة، التي «لَفَّقها» لَه «بنو آدم»، الذين تَفنَّنوا فِي صنُوف الفَسَاد والإجرَام والعِنَاد..!

وبَعد بَحثٍ وجُهد، عَثرتُ عَلى نَصٍّ لُغوي «نَادر»، لشَيخنَا البَاحث والأَديب «أحمد بن إبراهيم الغزَّاوي»، فِي كِتَابه الرَّوعة «شَذَرَات الذَّهب»، حَيثُ يَقول فِي صـ483: (يَزجر الأَب وَلده، أَو العَمّ خَادمه، ويَشتمه إذَا وَجَد مِنه عِنَاداً، أَو بَلَادة فِي الفَهم.. فيَقول لَه «بَلاش حَمْيَرَة»، وكُنَّا نَحسبها نِسبةً إلَى «الحَمير»، ومَا هِي كَذَلك فِي أَصلِهَا. حَيثُ قَال «الفيروز آبادي» فِي القَاموس المُحيط: «وتَحَمْيَر سَاء خُلقه»، وأَورَد ذَلك فِي كَلَامه عَن قَبيلة «حمْيَر» اليَمنيَّة.. وقَال: «وتَكلَّم بالحِمْيريَّة، أَي تَحَمْيَرَ..»)!

ثُمَّ يُواصِل الغزَّاوي قَائِلاً: (وهُنَا التَبست «الحَمْيَرَة»، واشترَك فِيهَا مَعنيَان، ومِن التَّسَامُح أَنْ يَكون التَّأويل مُنصَرِفاً إلَى النِّسبَة للقَبيلَة، لَا الحيوَان، حَتَّى لَا يَتشَابَك الإنسَان مَع أَخيهِ الإنسَان! وبهَذا تَكون «الحَمْيَرَة» هِي الإغرَاب فِي الحَديث، بلَهجةٍ غَير مَعروفَة، لَا أَقَل ولَا أَكثَر)..!

الله أَكبَر.. جَاء الحَقُّ وزَهَق البَاطل، حِين اتَّضح أَنَّ الحَمْيَرَة هِي التَّكلُّم بلُغة حمْيَر، وتُطلَق عَلَى مَن يَكون حَديثه غَريباً، أَو غَير مَفهوم..!!

حَسنًا.. مَاذا بَقي؟!

بَقي القَول: شُكراً للبَاحث الجَليل «الغزَّاوي»، الذي أَصَدَر صَك بَرَاءَة الحِمَار، وأَخرَجه مِن «الفَوضَى اللُّغويَّة»، التي زُجّ بالحِمَار فِيهَا؛ مِن غَير حَولٍ مِنه ولَا قُوَّة.. ولَا رَغبَة، فهو وإنْ كَان يَحمِل الأسفَار «الكُتب»، ولَا يَنتَفع بِهَا، فهَذَا يَدلُّ عَلى ذَكَائِه، لأنَّه لَم يُطلَب مِنه قِرَاءَتها، بَل نَقلهَا، وهَذا يُظهِر أَنَّ الحِمَار كَائِن أَصيل، عُرِفَ عَنه أَنْ مِن حُسن عَقله وسَلَامة تَفكيره، أَلَّا يَتدخَّل فِيمَا لَا يَعنِيه.

أخبار ذات صلة

شهامة سعودية.. ووفاء يمني
(مطبخ) العنونة الصحفيَّة..!!
رؤية وطن يهزم المستحيل
ريادة الأعمال.. «مسك الواعدة»
;
هل يفي ترامب بوعوده؟
رياضة المدينة.. إلى أين؟!
جيل 2000.. والتمور
التراث الجيولوجي.. ثروة تنتظر الحفظ والتوثيق
;
قصَّة أوَّل قصيدة حُبٍّ..!
حواري مع رئيس هيئة العقار
الحسدُ الإلكترونيُّ..!!
مستشفى خيري للأمراض المستعصية
;
الحُب والتربية النبوية
سلالة الخلايا الجذعية «SKGh»
التسامح جسور للتفاهم والتعايش في عالم متنوع
التقويم الهجري ومطالب التصحيح