هل البيت الأندلسي وُجِدَ حقيقة؟
تاريخ النشر: 25 يناير 2018 01:21 KSA
هو نفس السؤال الذي طرحه سقراط في محاورتي أفلاطون عن أتلنتيد: هل مدينة مثل هذه وجدت حقيقة؟ وهو يعرف مسبقًا
أن فعل التخييل حاسم في قصة أتلنتيد، بل ومحدد لها.
من هذا السؤال تنشأ الكتابة عن المكان التاريخي المادي، والمكان الإبداعي التخيلي.. لو اعتمدنا على وجهة نظر كزافييه غارفييه في كتابه: ما هو الفضاء الأدبي؟ مع بيير زوبيرمان (Xavier Garnier et Pierre Zoberman: Qu›est-ce qu›un espace littéraire? Presse universitaire, Vincennes. 2006) فالأمر لا يتعلق بالحقيقة الموضوعية، لكن بخصوصية الفضاء الأدبي كونه فضاء نصيًا
مطعمًا بالحياة.
في البيت الأندلسي (البيت الأندلسي، دار الجمل، بيروت، 2010) يتعلق الأمر بحالة شبيهة تمامًا.. قصة ببيت كما يتبدى من العتبة الأولى.. بمكان تحيل هندسته إلى قيم ثقافية وهندسية وعمرانية حضارية قديمة.. أي أن المكان يفترض أن يستنهض سلسلة من القيم الثقافية المصاحبة له عضويًا.. ويفترض أيضًا أن لهذا المكان توصيفًا معينًا يبتعد ويقترب عن عصرنا المعيش.. عندما يطرد الجد الأول، غاليليو الروخو من مدينته غرناطة، تاركًا وراءه حبيبته ميمونة التي سمى عليها البيت لاحقًا، ذات الأصول اليهودية، التي أجبرت مثله على التمسيح من طرف محاكم التفتيش المقدس، يقسم أن يبني لها بيتًا في غرناطة.. وهو ما سيفعله في الجزائر مع حملة الطرد الأخيرة في 1609.. تلتحق به حبيبته ميمونة لاحقًا ويعيشان فيه قبل أن ينسحبا من الحياة، تاركين وراءهم الأبناء والأحفاد للقيام بالحفظ، لأن البيوت المهجورة تموت أيضًا جراء وحدتها
.
يحول الأتراك البيت لاحقًا إلى قصر لابنة خوجا المال العمياء أو خداوج العمياء، وهو الاسم الذي يحمله حتى اليوم.. اشتراه لها والدها لحمايتها من مفاجآت الحياة.. عندما يحتل الفرنسيون الجزائر يحول البيت إلى دار لراحة نابليون الشتوية، حيث الجو المتوسطي
في الجزائر معتدل.
جونار حاكم الجزائر، في بداية القرن العشرين، والمثقف الكبير، حول البيت إلى مكان لتعليم الموسيقى الأندلسية، التي كان معجبًا بها، ويريد الحفاظ عليها. سياسته المتعاطفة مع الثقافات المحلية في الجزائر جلبت له الكثير من المشكلات انتهت إلى إقالته.. بعد الاستقلال يتحول إلى مكان لتعذيب معارضي النظام، قبل أن يصبح كباريه يتم فيه تحضير الساقطات لكبار المسؤولين بتواطؤ مع مسيري الكباريه.. وفي الحملة المحمومة لبناء الأبراج وظهور بورجوازية البازار، يتم شراؤه لتهديمه وتحويله إلى برج الأندلس، على الرغم من إصرار مراد باسطا، آخر أفراد السلالة، ومحاولاته اليائسة، على إبقائه والحفاظ عليه.. وكأنها حقبة بدأت مع البيت وزالت بزواله.. القراءة المفتوحة للرواية تحولها طبعًا إلى استعارة وطنية وعربية
تتعلق بانهيار تاريخ بكامله.
نحن أمام مكان وقضية تتعلق بالتاريخ والهويات.. تتبع حركة البيت وتحولاته، يحيلنا إلى صدقية المكان من عدمها.. تاريخيًا المكان موجود جزئيًا في الجزائر.. بيت أندلسي قديم مرت عبره حقب متعددة روتها الرواية.. لكن قصة البيت الأندلسي السابقة لتشييده هي فعل تخيلي محض.. الجد موجود، وهو جدي كما في المرويات القديمة الخاصة بتاريخ المورسكيين، ومرويات الجدة القادمة من بعيد.. كان الجد ممن طردوا في الحملة الأخيرة في 1609. لكن البيت بعد الاستقلال أصبح متحفًا للفنون التقليدية.. وأنقذ بفضل
محبي القصبة وتم ترميمه..
الرواية طبعًا تقول شيئًا آخر غير الحقيقة بالمعنى المادي التاريخي.. لقد تم تصنيع مكان آخر بعناصر مكانية تاريخية، تشابكت بالتخييل، فانتهت أن تكون مكانًا ماديًا.. ولو أن هذا لا يمنع البحث في العناصر التاريخية لكن الرواية تحمل مؤشرًا واضحًا يضعها خارج اليقين التاريخي، ويدخلها بقوة في اللعبة الفنية، التي تجعل المكان كيانًا روائيًا وإبداعيًا مليئًا بنفس الحياة، كما أعاد الكاتب إنتاجها وفق رؤيته الإبداعية والروائية في عملية انزياحية لا تبقي إلا على خلفية ضئيلة وباهتة أحيانًا
من تفصيلات الحياة.
معرفة المكان المادي بشكل تاريخي، والاستئناس بتفاصيله، ليس هدفًا مقصودًا لذاته، لأن الكاتب ليس مؤرخًا.. فهو إما أن يكون كاتبًا أو لا يكون.. التاريخ مجرد وسيلة للسيطرة على مساحة العمل والاشتغال عليه وفق الاستراتيجيات والخيارات الروائية التي تهم الكاتب.
أن فعل التخييل حاسم في قصة أتلنتيد، بل ومحدد لها.
من هذا السؤال تنشأ الكتابة عن المكان التاريخي المادي، والمكان الإبداعي التخيلي.. لو اعتمدنا على وجهة نظر كزافييه غارفييه في كتابه: ما هو الفضاء الأدبي؟ مع بيير زوبيرمان (Xavier Garnier et Pierre Zoberman: Qu›est-ce qu›un espace littéraire? Presse universitaire, Vincennes. 2006) فالأمر لا يتعلق بالحقيقة الموضوعية، لكن بخصوصية الفضاء الأدبي كونه فضاء نصيًا
مطعمًا بالحياة.
في البيت الأندلسي (البيت الأندلسي، دار الجمل، بيروت، 2010) يتعلق الأمر بحالة شبيهة تمامًا.. قصة ببيت كما يتبدى من العتبة الأولى.. بمكان تحيل هندسته إلى قيم ثقافية وهندسية وعمرانية حضارية قديمة.. أي أن المكان يفترض أن يستنهض سلسلة من القيم الثقافية المصاحبة له عضويًا.. ويفترض أيضًا أن لهذا المكان توصيفًا معينًا يبتعد ويقترب عن عصرنا المعيش.. عندما يطرد الجد الأول، غاليليو الروخو من مدينته غرناطة، تاركًا وراءه حبيبته ميمونة التي سمى عليها البيت لاحقًا، ذات الأصول اليهودية، التي أجبرت مثله على التمسيح من طرف محاكم التفتيش المقدس، يقسم أن يبني لها بيتًا في غرناطة.. وهو ما سيفعله في الجزائر مع حملة الطرد الأخيرة في 1609.. تلتحق به حبيبته ميمونة لاحقًا ويعيشان فيه قبل أن ينسحبا من الحياة، تاركين وراءهم الأبناء والأحفاد للقيام بالحفظ، لأن البيوت المهجورة تموت أيضًا جراء وحدتها
.
يحول الأتراك البيت لاحقًا إلى قصر لابنة خوجا المال العمياء أو خداوج العمياء، وهو الاسم الذي يحمله حتى اليوم.. اشتراه لها والدها لحمايتها من مفاجآت الحياة.. عندما يحتل الفرنسيون الجزائر يحول البيت إلى دار لراحة نابليون الشتوية، حيث الجو المتوسطي
في الجزائر معتدل.
جونار حاكم الجزائر، في بداية القرن العشرين، والمثقف الكبير، حول البيت إلى مكان لتعليم الموسيقى الأندلسية، التي كان معجبًا بها، ويريد الحفاظ عليها. سياسته المتعاطفة مع الثقافات المحلية في الجزائر جلبت له الكثير من المشكلات انتهت إلى إقالته.. بعد الاستقلال يتحول إلى مكان لتعذيب معارضي النظام، قبل أن يصبح كباريه يتم فيه تحضير الساقطات لكبار المسؤولين بتواطؤ مع مسيري الكباريه.. وفي الحملة المحمومة لبناء الأبراج وظهور بورجوازية البازار، يتم شراؤه لتهديمه وتحويله إلى برج الأندلس، على الرغم من إصرار مراد باسطا، آخر أفراد السلالة، ومحاولاته اليائسة، على إبقائه والحفاظ عليه.. وكأنها حقبة بدأت مع البيت وزالت بزواله.. القراءة المفتوحة للرواية تحولها طبعًا إلى استعارة وطنية وعربية
تتعلق بانهيار تاريخ بكامله.
نحن أمام مكان وقضية تتعلق بالتاريخ والهويات.. تتبع حركة البيت وتحولاته، يحيلنا إلى صدقية المكان من عدمها.. تاريخيًا المكان موجود جزئيًا في الجزائر.. بيت أندلسي قديم مرت عبره حقب متعددة روتها الرواية.. لكن قصة البيت الأندلسي السابقة لتشييده هي فعل تخيلي محض.. الجد موجود، وهو جدي كما في المرويات القديمة الخاصة بتاريخ المورسكيين، ومرويات الجدة القادمة من بعيد.. كان الجد ممن طردوا في الحملة الأخيرة في 1609. لكن البيت بعد الاستقلال أصبح متحفًا للفنون التقليدية.. وأنقذ بفضل
محبي القصبة وتم ترميمه..
الرواية طبعًا تقول شيئًا آخر غير الحقيقة بالمعنى المادي التاريخي.. لقد تم تصنيع مكان آخر بعناصر مكانية تاريخية، تشابكت بالتخييل، فانتهت أن تكون مكانًا ماديًا.. ولو أن هذا لا يمنع البحث في العناصر التاريخية لكن الرواية تحمل مؤشرًا واضحًا يضعها خارج اليقين التاريخي، ويدخلها بقوة في اللعبة الفنية، التي تجعل المكان كيانًا روائيًا وإبداعيًا مليئًا بنفس الحياة، كما أعاد الكاتب إنتاجها وفق رؤيته الإبداعية والروائية في عملية انزياحية لا تبقي إلا على خلفية ضئيلة وباهتة أحيانًا
من تفصيلات الحياة.
معرفة المكان المادي بشكل تاريخي، والاستئناس بتفاصيله، ليس هدفًا مقصودًا لذاته، لأن الكاتب ليس مؤرخًا.. فهو إما أن يكون كاتبًا أو لا يكون.. التاريخ مجرد وسيلة للسيطرة على مساحة العمل والاشتغال عليه وفق الاستراتيجيات والخيارات الروائية التي تهم الكاتب.