الفساد الثقافي.. من القول إلى المقاولة

قد يكون الموضوع شائكًا بعض الشي، لكن يجب فتحه، الفساد.. والفساد الثقافي تحديدًا.. كثيرًا ما ننزه المثقف عن كل خلل ونتوقف فقط عند الفساد الاقتصادي والسياسي.. السياسي يفضح بسهولة لأنه مرتبط بالمصلحة المباشرة والعلاقة البراغماتية المباشرة مع الجمهور.. الشعب، طبيعيًا، لا يحمل حبًا كبيرًا للسياسي.. كذبه ينكشف بسرعة ولا يحتاج الأمر إلى كبير تفكير.. مجبر من حيث كونه سياسيًا على الاصطفاف مباشرة بجانب قوى الساعة، والمهيمن وكثيرًا ما يكون ذلك

مبنيًا على الكذب.


السياسي نفعي بامتياز، ولا يخسر وقته كثيرًا في الإقناع بقوله.. طبعًا يوجد ساسة محترمون، لكنهم لا يشكلون أية نموذجية.. عمرهم عمر الفراشات، لا يطول أبدًا.. محدود في الزمن والمكان.. من ساعة ما يدخل المعترك السياسي يتم تأمله كعنصر خارجي، ومشبوه، لأنه لا يشبه الآخرين.. في اللحظة التي يصبح فيها خطيرًا على الفساد، يعزل بقرار، وإذا استعصى، يصفى بمختلف الوسائل بما فيها إلصاق التهم المجانية والأخلاقية. لهذا السياسي لا يطرح أسئلة كثيرة في كل حالات اصطفافه.. المشكلة العويصة في المثقف، عندما يعتلي سدة الحكم في الإدارة البسيطة أو الأكثر تعقيدًا. أخرِج من هذا السياق النموذجي المثقف المقاوم للفساد والذي يملك ضميرًا عميقًا، ولكن في الأغلب الأعم، كما السياسي النقي، ينتهي إلى العزل وفي بعض الحالات إلى الحبس بحيث

يتم تكريس مختلف الجرائم ضده.


أتحدث هاهنا عن نموذج غالب في العالم العربي.. يبدأ بسيطًا وصديقًا للجميع، ومتفهمًا لخيارات الناس، متعففًا عن الحكم لأنه يسلبه حريته، هاربًا منه في ظاهره لأنه يعوقه ويمنعه من حرية أن يكون مستقلاً في الرأي داخليًا وخارجيًا.. ينتقد الأوضاع ببعض الجرأة التي تقطع الحبل السري بينه وبين النظام.. ربما هذا الموقف النموذجي يتقن لعبة انتظر وتأمل Wait and see إلى اليوم الذي ينادى فيه عليه للقيام بشيء.. ويكون قد اشتغل في الكواليس مستعملاً أولاً الحس الجهوي البغيض لأنه الأكثر تأثيرًا في ساسة جهلة وأميين لم يبق أمامهم إلا ما هو جهوي وضيق، يدافعون عنه.. ثم يتسلق في سهرة أو سهرتين ليقف أمام أصحاب القرار، من مدنيين وعسكريين ومخبرين. وشيئًا فشيئًا تتسع شبكة صداقاته، التي تحميه ويحمي هو لها مصالحها الصغيرة بشكل خفي.. فيقوى بسرعة ويرتفع صوته ويصبح مؤثرًا في حركية المصالح. ويصدق في النهاية أنه أصبح وزيرًا، بعد أن قطع كل العتبات التي أهلته ليحتل أعلى المراتب.. وبدل أن يكون مثقفًا يصبح سياسيًا صغيرًا وضحلاً. وما دامت نظرته لا تتجاوز أنفه، يحيط نفسه بالحثالات الثقافية الصغيرة، ومن يخدمونه.. يضع هنا صديقه في الحزب نفسه.. هناك ابن ولي نعمته وحاميه.. هنا وهناك أبناء مدينته وقبيلته، من الذين يمكنه السيطرة عليهم.. وهناك.. هناك بالضبط يضع من يتماهى معه، ويستعمل وجهه، ليتقاسم معه في الخفاء مالاً فاسدًا بغير حق.. وكل المشاريع تمر عبره لدرجة أن تتساءل إذا لم يوجد في

البلاد إلا هذا الشخص، أو ذاك.

مشكلة المثقف مثل السمك، يفسد من رأسه أولاً، فيتعفن بسرعة.. وكلما التجأ إلى القول يتكلم كما المقاول، كل شيء محسوب وفق المصلحة.. مشكلته أنه لا يملك أي مشروع يدافع عنه.. الذي يفكر في المشاريع هو من يملك رؤية مستقبلية، ويشيد بهدف أن يترك وراءه شيئًا مميزًا مثل الوزير الفرنسي جاك لانغ، الذي أسس مدينة العلوم في لافيلات ورسّم عيد الموسيقى ووسع من متحف اللوفر برفقة رئيس عاشق للفنون، ميتران. مشكلة هذا النوع من المثقفين وهو الغالب أناني بلا حد ولا يفكر إلا في مصلحته.. إذا أخطأ منصبًا كبيرًا يكون في الخطة «ب» plan B يحضر لأن يكون سفيرًا. وإذا لم يحالفه حظ السفارة، يكون قد رتب أموره ليكون وزيرًا. ولمَ لا، في ظل أوضاع عربية لا تخضع لأي منطق، ولا لأي عقل.. الوزارة الإستراتيجية؟ وزارة الثقافة، التي تربي الشعب وتمنحه وسائل الدفاع عن أرض شديدة الغنى.. وزارة ميزانيتها أقل من واحد صفر فاصلة.. وينتهي بشكل تراجيدي لأنه يكون قد صنع قبره أو حفرته الضيقة التي

يتم خنقه فيها.

قد يكون هذا المثقف أو هذا المدير أو هذا الوزير المثقف جزءًا من النظام وفي أنظمة عربية تكره المثقف عمومًا عليه أن يبذل جهودًا من الخنوع والاستسلام ليثبت لأولياء النعمة، أنه يملك قدرًا كبيرًا من التبعية والإصغاء. وينتهي نهاية فجائعية.. وعندما يضطر إلى المغادرة وترك منصبه، يكون قد فقد عذريته.. وفي أول فرصة، وبلا أدنى خجل، يصبح معارضًا ومدينًا للإهمال الثقافي في البلاد.. النظام يعرفه جيدًا، يرمي له عظماً، يلهيه به عن كل قول، وينتقل من

مثقف معارض إلى مثقف مقاول منشغل بمصالحه.

في البلدان الأوروبية وزارة الثقافة هي من أجمل وأبهى الوزارات، العلاقة معها تختلف، لأن رهاناتها إستراتيجية، في العالم العربي هي العجلة الخامسة، ليست ضرورية إلا عند الحاجة.

أخبار ذات صلة

شهامة سعودية.. ووفاء يمني
(مطبخ) العنونة الصحفيَّة..!!
رؤية وطن يهزم المستحيل
ريادة الأعمال.. «مسك الواعدة»
;
هل يفي ترامب بوعوده؟
رياضة المدينة.. إلى أين؟!
جيل 2000.. والتمور
التراث الجيولوجي.. ثروة تنتظر الحفظ والتوثيق
;
قصَّة أوَّل قصيدة حُبٍّ..!
حواري مع رئيس هيئة العقار
الحسدُ الإلكترونيُّ..!!
مستشفى خيري للأمراض المستعصية
;
الحُب والتربية النبوية
سلالة الخلايا الجذعية «SKGh»
التسامح جسور للتفاهم والتعايش في عالم متنوع
التقويم الهجري ومطالب التصحيح