ثلاثة وعشرون مغفلاً.. في دقيقتين!!

هذا ما حدث أمامي مباشرة:

انتهيتُ من صلاة الجمعة.. وكعادة مسجدنا -ومعظم مساجدنا العامرة- وقفَ في رأس الصف الأول رجلٌ بكامل قواه الجسدية والعقلية، وبدأ خطبته (الصمعاء)...


وخطبةُ التسول محفوظة لدينا كما هو معروف: ديباجة دينية ركيكة في البداية، لتثبت لرصّة المصلين صلاحَ وتقى صاحبنا المتسول، ثم انقضاض على موضوع الخطبة دون بلاغة ولا حسن تخلّص، وهذا الموضوع كما تعلمون -أيها المصلون الخاشعون- واحد لا يختلف: الشكوى من قسوة الأيام وتكالب الظروف وضيق الحال، ثم الخاتمة الدرامية الباهتة (المسروقة -على ما يبدو- من مسلسلاتنا الخليجية الباهتة)، أعني فقرة البكاء والنشيج والنواح.

المهم.. دحرج صاحبنا المتسول شفقته حتى جلس عند باب المسجد، وأنا أتابعه متحفزًا ومتسائلاً إن كان خطابه البائس سينجح.. لكنه ما إن جلس حتى انهال عليه المصلون صغارًا وكبارًا بالنقود أخضرها وأحمرها.. كان منظرًا عجيبًا ومهيبًا.. جعلني أخرج هاتفي وأنظر للساعة، لتكون النتيجة صاعقة: ففي ظرف دقيقتين.. دقيقتين فقط.. تبرّع ثلاثة وعشرون مصليًا بالمال.. (نعم.. 23 متبرعًا في دقيقتين فقط!!).


هالني ما رأيت، وتوقفت عن الحساب (ولم يتوقف أهل الخير!)، وغرقت في أفكاري:

هنا رجل بكامل قدرته على العطاء والعمل، يفوق في قوته كثيرًا ممن يسألهم في المسجد، وهنا قومٌ يُدركون خطر التسول ومشاكله -بل كوارثه- على المجتمع، كما أنهم يعلمون يقينًا احتمالية كذب هذا المتسول وغيره، وعدم نظامية فعله، بل إنه يخرق قانونًا من قوانين هذا البلد الذي ننتمي له بفخر، ورغم ذلك فقد تهافتوا كالفراش (أقول «الفراش».. لأن مسؤول الصفحة لن يسمح بمرور الكلمة الأخرى التي أقصدها).. تهافتوا تتملكهم الشفقة (وهي نزعةٌ أولية ساذجة)، ساعين إلى الأجر الرخيص المقولب (في لبوس الصدقة)، دون أي إحساس بالمسؤولية الاجتماعية ولا المصلحة العامة للوطن.

يظن هؤلاء المتصدقون بسخاء -إثمًا- أنهم يُحسنون صنعًا، دون أن يُفكِّروا أنهم مُشتركون مباشرون في كل جريمة تُرتكب بحق طفل تُقطع يده أو يشوّه جسده ليلقى به مع جموع الأطفال المتسولين على الطرقات، مشتركون في كل جريمة أمنية أو ظاهرة اجتماعية سلبية تتسبب بها عصابات التسول التي تتكاثر كالنمل، رغم محاربة الجهات المتخصصة لها في كل مكان، مشتركون في تعطيل مسيرة التنمية الوطنية القائمة على العمل، والمشاركة الإيجابية في بناء هذا الوطن.

أخرِجوا -مثلما فعلتُ- هواتفكم.. افتحوا الآلة الحاسبة.. واحسبوا معي..

هذا رجلٌ صحيح العقل والبدن (مع نقص حاد في المروءة) حصل على مئات الريالات في دقيقتين، دقيقتين فقط.. كم سيحصّل في ساعة..؟! وكم سيجني في يوم..؟! وكم هو دخله الشهري..؟!

هل سيُفكِّر مثل هذا في أي عمل حقيقي، يعود على المجتمع بالنفع، ويترك هذه الوظيفة السهلة المربحة التي يحسده عليها كبار المديرين التنفيذيين..؟!

هو لا يفعل شيئًا.. كل ما عليه أن يرتدي قناع البؤس والحاجة، ويجهّز خطبة بائسة الحبكة، ثم يذهب لأقرب مسجد.. أو أقرب إشارة.. أو أقرب سوق.. ويجلس عند الباب.. هذا كل ما عليه أن يفعل..

الباقي سيتكفل به حفنة من «المغفلين».. الذين بلغ عددهم -ذات ظهيرة- ثلاثة وعشرون مغفلاً.. في دقيقتين..!!

أخبار ذات صلة

اللغة الشاعرة
مؤتمر الأردن.. دعماً لوحدة سوريا ومستقبلها
الجهات التنظيمية.. تدفع عجلة التنمية
الاستثمار في مدارس الحي
;
معرض جدة للكتاب.. حلَّة جديدة
«حركية الحرمين».. إخلاص وبرامج نوعية
دموع النهرين...!!
الجمال الهائل في #سياحة_حائل
;
عقيقة الكامخ في يوم العربيَّة
قُول المغربيَّة بعشرةٍ..!!
في رحاب اليوم العالمي للغة العربية
متحف للمهندس
;
وقت الضيافة من حق الضيوف!!
السرد بالتزييف.. باطل
عنف الأمثال وقناع الجَمال: قلق النقد ويقظة الناقد
مزايا مترو الرياض