«حوستي» مع فرويد.. والترجمتيْن

خضت مؤخراً تجربة ظريفة وغريبة الطابع، وذلك حين قررت أن أشاهدَ المسلسل النمساوي-الألماني «فرويد»، وهو قصة متخيلة (غير حقيقية) تحكي مرحلة من مراحل حياة سيقموند فرويد، ذلك الطبيب النفسي الذي غيّر مجرى التاريخ ووجهة الفكر الحديث بفتوحاته المنهجية وأعماله الخالدة.. تجري أحداث المسلسل في زمن ما قبل شُهرة فرويد، حين كان طبيباً طموحاً (وجموحاً)، يخوض غمار عالم النفس البشرية الغامض المكتظ بالعجائب والأسرار.. وكانت فكرة المخرج -على ما يبدو- أن يصوّر تعقيدات النفس البشرية هذه، بالتقاطع مع الظروف الاجتماعية والتاريخية المعقدة حينها، فاعتمد على قصة مؤامرة تحاك ضد العرش النمساوي، يسهم فرويد في حلها نهاية الأمر، عبر الخوض في عوالم اللاوعي.

التجربة التي أعنيها كانت مع ترجمة المسلسل، فهو في الأساس صادر باللغة الألمانية، لكني وجدت نفسي أتابعه (على نتفلكس) مدبلجاً إلى الإنجليزية، ومصحوباً بترجمة مكتوبة على الشاشة (سب تايتل) باللغة الإنجليزية أيضاً.. أي أن الدبلجة الصوتية كانت إنجليزية، والترجمة المكتوبة كانت كذلك إنجليزية.. يَفترِضُ من يقع في هذا الوضع أن الترجمتين (الصوتية والمكتوبة) ستكونان متطابقتين، لأن النص الأصلي واحد، لكن هذا لم يكن.. إذ وجدتُ نفسي أمام تجربتيْن مختلفتين؛ فالمترجم الصوتي لم تكن له علاقة بالمترجم الكتابي.. يحضرني الآن وصف الروائية والفيلسوفة الإيرلندية آيرس مردوك للترجمة بقولها: «كأن يفتح شخص ما فمه لتسمع صوت شخص آخر يصدر منه».


من اللحظات الأولى للمسلسل بدتْ لي مشكلة الفرقِ بين الترجمتين؛ كنتُ أقرأ جملاً مختلفة عما كنت أسمع.. لا أقصد أن هناك خطأ في إحدى الترجمتين؛ كانت الترجمتان صحيحتيْن إجمالاً، لكنهما مختلفتان.. (كأنك تقرأ ترجمة لنص ما، ثم تقرأ النص نفسَه بترجمة أخرى).

المشكلة أني كنت -بشكل آلي- أتوقع أن أرى الجملة التي سمعتها مكتوبة، لكني أجد جملة أخرى تؤدي المعنى بطريقة مختلفة أحياناً، وغير مقنعة أحياناً أخرى.. أي أني وقعتُ في لعبة من ألعاب الترجمة، حيث اصطادتني بمكرها، لتأخذني في حيل المخاتلة ومناوبة الكلمات والدلالات.. بعض العبارات تختلف في ترجمتها، وتقود لدلالات مختلفة قليلاً أو كثيراً.. أحياناً كنت ألاحظ أن المعنى يضيع بين ثلاثة مَكَـرَة أعجبتْهم الورطة التي وُضِعتُ فيها: أعني المسلسلَ والترجمةَ الصوتية والكتابيةَ.. وكثيراً ما تقاطعتِ العبارات، بحيث احتجت لأن أُعْمِلَ سليقتي الدرامية لأعرفَ أي الترجمات أدق في ذلك الموقف، أو في تلك اللحظة من تطور الحدث.. (العدوانية مثلاً، أو مستوى السخرية حين يظهران بمستويات متباينة).. وقد لاحظت عموماً أن الترجمة المكتوبة أكثرُ دقة، وأقربُ تعبيراً عن الأحداث ومواقف الشخصيات.


أعلم أن خيارات العرض في (نتفلكس) كانت ستحل الأمر، وتسمح لي بالخروج من هذه الحوسة، لكن اللعبة -لا أخفيكم- أعجبتني، فأكملت المشوار.. الترجمة عمليةٌ مخاتِلة، لا تخلو من مكرٍ، ومفاجآت غير منتظرة.. يختبر النصُّ صبرَك، بقدر ما يختبر مهاراتك وقدراتك (اللغوية، والثقافية، والاجتماعية).. يحضر لذهني الآن أولئك الذين أقحموا رؤوسهم في دوامة الترجمة استسهالاً للمجال وتطفلاً عليه.. فخرجت أعمالهم (مثل رؤوسهم في زمن كورونا) مشوهة تشتكي غياب الحلاق المحترف.. أقصد المترجم المحترف.

لم يكن المسلسل يستحق المتابعة، شخص مثل فرويد يستحق أكثر في رأيي، ورغم ذلك فقد استدرجتْني ازدواجيةُ الترجمة لأشاهد كامل الحلقات، محاولاً اصطياد المعنى العائم بين موجتيْن.. هل كان الصربي ديجان ستوينفيتش يقصدني، أم يقصد فرويد، حين قال: «إن العالم لا يمكن ترجمته، يمكن فقط أن نحلم به..».

أخبار ذات صلة

اللغة الشاعرة
مؤتمر الأردن.. دعماً لوحدة سوريا ومستقبلها
الجهات التنظيمية.. تدفع عجلة التنمية
الاستثمار في مدارس الحي
;
معرض جدة للكتاب.. حلَّة جديدة
«حركية الحرمين».. إخلاص وبرامج نوعية
دموع النهرين...!!
الجمال الهائل في #سياحة_حائل
;
عقيقة الكامخ في يوم العربيَّة
قُول المغربيَّة بعشرةٍ..!!
في رحاب اليوم العالمي للغة العربية
متحف للمهندس
;
وقت الضيافة من حق الضيوف!!
السرد بالتزييف.. باطل
عنف الأمثال وقناع الجَمال: قلق النقد ويقظة الناقد
مزايا مترو الرياض