أنصاف المتعلمين.. والنقد الحديث

النقد مجال حيوي ومهم، يظل مع مرور الزمن وتغيّر الأحوال مصدراً للنقاش والجدل المحتدم حول طبيعته، ووظيفته، وتطور أدواته.. وهذا ليس أمراً غريباً، ليس لأنه يتقاطع مع مجالات معرفية مختلفة وحسب، بل لأنه قبل ذلك يتعامل مع الملكة الإنسانية الأساسية في طريق نموه وتطوره، أعني ملكة الحكم، واتخاذ القرار.. وهذا ما جعل الفلاسفة منذ القدم يخوضون فيه، ويسهمون في قضاياه المختلفة، منذ أرسطو وحتى الفارابي وكانْت ومدرسة فرانفكورت النقدية.. أعتقد أن هذا النقاش إيجابي -حتى وإن تداخل فيه غير المتخصصين وأنصاف المتعلمين- وذلك لإبقاء المجال نشطاً يعيش حالة قلق دائمة ضد السكون واليقين.

طبيعة الجدل كما أشرت هي إحدى نقاط الاختلاف القديم الجديد، ولعل نورثرب فراي كان أحد الذين خاضوا في الجدل المهم الذي حاول وضع النقد الأدبي في سياقه، أعني جدل العلمية والفنية، والمرجعية التي يمكن للنقد كمجال معرفي أن يتبع لها. أذكر أنه في أحد مقالاته قال إن النقد -إن كان بالإمكان اعتباره علماً- فإنه سيكون ضمن العلوم الاجتماعية (social sciences) وليس غير ذلك.


ويمكن أن أضيف باطمئنان أن تطور النقد في العقود الأربعة الأخيرة، جعله يصبح مفتاحاً معرفياً مهماً، وجسراً يجمع بين مجالات إنسانية مختلفة. أعتقد أن النقد وفر للإنسانيات عموماً منهجياتِ تحليل وقراءة للنصوص والظواهر الأدبية، والاجتماعية، والثقافية، بطريقة أسهمت في إمكانية النظر فيما بين هذه المجالات من تقاطعات يمكن الانطلاق منها نحو برامج بينية تجمع اهتمامات متنوعة من تخصصات مختلفة. هذه الدراسات البينية هي الصيحة الأكثر بروزاً في عالم البحث العلمي في العقد الأخير كما هو معروف.

لكن لابد من التأكيد على أن النقد الأدبي -في أساسه- «علم»، يدرس «فناً»... أعتقد أن الخلط بين المجاليْن في عالمنا العربي أنتج أعمالاً نقدية هجينة، تفتقر كثيراً لروح المنهجية العلمية وانضباطه... من المؤسف حقيقة أن نجد عدداً لا يستهان به من الأعمال النقدية المكتظة باللغة الأدبية والمجاز، ومحاولة التفاصح، والاستعراض البلاغي، على حساب التحليل المنهجي والتفكير النقدي اللتيْن تمثلان جوهر النقد باعتباره مجالاً معرفياً عريقاً.


أما فيما يخص مرجعية النظرية النقدية، فأعتقد أن النقد هو أحد المجالات التاريخية المهمة التي أثبتت أهمية انفتاح الثقافات على بعضها، وجدوى التلاقح الثقافي، منذ استفاد المسلمون الأوائل من أطروحات الإغريق وطوروها، ثم نقلوها للغرب بعد ذلك. نعم.. هناك عوامل مختلفة توجه عمليات التأثر والتأثير التاريخية، من أهمها «الحالة الحضارية» التي تعيشها الأمة في حينها، لكني أعتقد أن تطور النظرية النقدية في العصر الحديث في الغرب هو أحد ثمار الحظوة الحضارية التي عاشها ويعيشها الغرب في القرون الأخيرة. تمثل هذه المناهج والنظريات الحديثة، أفضل ما وصل له الإنسان في فهم الظاهرة الأدبية، ولا أعتقد أن تجاهل هذه الحقيقة أمر مفيد أو ممكن. التعامل مع هذا الأمر بمسؤولية هو الطريقة الصحيحة للاستفادة من المنجز النقدي وتطويره قدر الإمكان.

في رأيي أن الوصول لصياغة «نظرية نقدية» مستقلة وخاصة بنا، أي بالأمة العربية، هو حلم ساذج، ومتعذر، وذلك لأن هذا لا يمكن -في رأيي- إلا عبر نهضة حضارية شاملة، تعتمد على العلم والعقلانية، وتؤمن بالإنسان وحقوقه وقيمه، وتنطلق منها.

حين يكون «الغرب» مصدراً للنظريات والتطبيقات العلمية لكل المجالات الأخرى، كالهندسة، والطب، والعلوم، والإدارة، والاقتصاد، وعلوم النفس والاجتماع، واللسانيات الحديثة... كيف نطلب من النقد ألا يتأثر بالمنجز الغربي ويستفيد منه، ويقوم عليه.. هذا أمر غير منطقي في رأيي.

أخبار ذات صلة

اللغة الشاعرة
مؤتمر الأردن.. دعماً لوحدة سوريا ومستقبلها
الجهات التنظيمية.. تدفع عجلة التنمية
الاستثمار في مدارس الحي
;
معرض جدة للكتاب.. حلَّة جديدة
«حركية الحرمين».. إخلاص وبرامج نوعية
دموع النهرين...!!
الجمال الهائل في #سياحة_حائل
;
عقيقة الكامخ في يوم العربيَّة
قُول المغربيَّة بعشرةٍ..!!
في رحاب اليوم العالمي للغة العربية
متحف للمهندس
;
وقت الضيافة من حق الضيوف!!
السرد بالتزييف.. باطل
عنف الأمثال وقناع الجَمال: قلق النقد ويقظة الناقد
مزايا مترو الرياض