فلسطين في الأفق الإنساني

يسبقنا السؤال الطبيعي والعادي بالنسبة لكل إنسان غيور.. أقول إنسانًا لأن فلسطين قضية أكبر من كونها قضية عربية وربما من حظها، فهي إنسانية بامتياز ولهذا إنهاؤها يصبح مستحيلا إلا إذا تواطأت البشرية قاطبة ضدها: ماذا تعني فلسطين في ثقافتنا اليوم، في الفن، لأنه الواجهة المتبقية، القيمة المتعالية، على الرغم من تآكلها، لكنها موجودة.. وجودها وحده يضمن شيئًا من حياتها لأن الفن يقاوم في جوهره، كل سبل الإفناء.. في ظل زمن صعب وقاس حلت فيه قيم أخرى معادية للسخاء الفني كليًا، وصلت حدّ النهب المعلن وابتزاز الأمم في خيراتها أمام الملأ؟ هل فلسطين استعارة منفلتة عن المعنى وعن كل قدرة على السيطرة كما رسمها درويش؟ وكلما حاولنا وضع حدود لها هربت منا وانزلقت باتجاه سريرها الأبدي: الحرية؟ أم هي أكثر من ذلك كله، حالة ثقافية صعبة ومؤلمة، تحتاج منا إلى أن نتجاوز الوسائل التي اشتغلنا من خلالها حتى اليوم وتجديد رؤانا؟ لقد كانت فلسطين دائمًا موضوعة فكرية وحضارية وثقافية تهمنا كثيرًا، بل تشكل منشغلا مركزيًا تعاملت معه الفنون باللغة والألوان والحركات بكثير من الحماس والرغبة في إحداث المنجز الذي يساهم في تغيير الصورة إلى العربي عمومًا والفلسطيني تحديدًا.

من هذا المعطى الثقافي الكبير، تجلت فلسطين بكل صورها في النصوص الدينية، في الأيقونات الخالدة، في النصوص الأدبية وغيرها، بقوة بالخصوصيات نفسها.. لكن المتأمل للجيل الثقافي العربي والفلسطيني الجديد الذي يفاجئنا بمنجزه الفني، يشعر بأن شيئًا عميقًا قد تغير أو هو بصدد ذلك.. يذكرنا بوسائله الفنية الحية بأن انقلابًا عميقًا وقع في العالم الذي يحيط بنا، تغيرت معه رؤانا.. ويعيد النظر في الرؤيتين اللتين تتجاذبان الصراع، رؤية عربية ثابتة وقانعة بما يدور حولها وكأن العالم لم يتغير، وكأن ميزان القوى ما يزال على حاله، وكأن العولمة لم تفرض شروطها، وكأن العالم الذي أصبح قرية صغيرة لم يغير شيئًا فينا؟ وهي رؤية مرتاحة ليقينها المسبق.. ورؤية عربية ديناميكية ترى كل شيء في حراكه وفق الشرطيات المحيطة بقضايانا الكبيرة.. وربما كانت النظرة الشابة الناشئة من دمار الخيبات واليأس هي ما يسترعي الانتباه الفني والنقدي، إذ إن هذه الرؤية تخرج بقوة من دائرة التكرار والاستعادة الاجترار، التي لا تقدم شيئًا جديدًا في عالم يسير بسرعة ويترك وراءه من لا يستطيع اللحاق به ويحاول فهمه حتى داخل التراجيديا واليأس، وأحيانا الاستحالة.


رهان الفن الأساسي في تعامله مع القضية الفلسطينية هي أن يخرجها من كونها قضية عربية فقط، عرضة للانتكاسات والصراعات والمصالح والحسابات التي ترهق الفلسطيني والعربي المحب أيضًا لهذه الأرض، أن يوصل صرختها إلى أبعد نقطة على هذه الأرض.. وإذن، كيف ينتقل الفن في تعامله مع قضية قومية كبيرة، إلى التعامل مع فلسطين كقضية تضع الفنان أمام رهان الإنسانية بحيث تصبح قضية أشمل بامتياز، تهم الفنان العربي بنفس القدر الذي تهم فيه الفنان الأمريكي، الفرنسي، الصيني، الأرجنتيني، الياباني، السويدي الخ... الانتقال من الإحساس الضيق إلى الإحساس الأشمل.. تحويلها كذلك يحتاج بالضرورة إلى فن يرتقي إلى الحالة الإنسانية ويمزق بقوة غشاء القومية الضيق الذي لم يعد كافيًا لإقناع عالم معقد مبني على المظالم، ولكن مبني أيضًا على قيم عليه أن يعيد تأملها ورؤيتها وقراءتها.. الفن هو الوسيلة الأسمى التي تضع العصر أمام قيمه التي خلقها واخترقها بلا تردد.. التراجيدية الفلسطينية لم تحدث في القرن الباليوليتكي حتى ننساها؟ الكثير من محركيها ما يزالون إلى اليوم أحياء.. فهي الاستعارة المثلى التي تضع العالم المتحضر ليس فقط أمام قضية إنسانية تهم بشرًا شردوا من أراضيهم ولكنها تصفعه أيضًا بقيمه التي تخلى عنها في هذه الأرض بالذات، المخترقة بمختلف القيم والأديان والتي كان عليه أن يكون فيها حيويًا وخلاقًا، لا أن يبرر هلوكوستا كان هو (الغرب) وراءه، بهلوكوست آخر يصنعه اليوم بممارساته التدميرية، ويصمت عليه ليتذكره بعد قرن بدموع تماسيح تكون هي نفسها قد انقرضت، في ظل الانهيار البيئي اليوم الذي تتزعمه أمريكا، التي تهمها من البشرية إلا ما يخدم غطرستها.. عنف الغد المدمر لكل توازن بشري، يتم تصنيعه اليوم في الأرض العربية.

أخبار ذات صلة

شهامة سعودية.. ووفاء يمني
(مطبخ) العنونة الصحفيَّة..!!
رؤية وطن يهزم المستحيل
ريادة الأعمال.. «مسك الواعدة»
;
هل يفي ترامب بوعوده؟
رياضة المدينة.. إلى أين؟!
جيل 2000.. والتمور
التراث الجيولوجي.. ثروة تنتظر الحفظ والتوثيق
;
قصَّة أوَّل قصيدة حُبٍّ..!
حواري مع رئيس هيئة العقار
الحسدُ الإلكترونيُّ..!!
مستشفى خيري للأمراض المستعصية
;
الحُب والتربية النبوية
سلالة الخلايا الجذعية «SKGh»
التسامح جسور للتفاهم والتعايش في عالم متنوع
التقويم الهجري ومطالب التصحيح