بين سعيدٍ وآخر: نور الجامعة.. وظلامُهم!!
تاريخ النشر: 20 أغسطس 2020 00:17 KSA
في العام 1420هـ، منحتْ لجنة المناقشة درجةَ الدكتوراه «بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى»، لرسالةٍ بعنوان (الانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر)، وظهرت بعد ذلك في كتاب من ثلاثة مجلدات، تحت عنوان (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها).. لا أعتقد أن الكتاب وصاحبه غريبان، فقد أثارا من الضجيج ما يكفي، لكني سأمر فقط على فقرات بسيطة من المقدمة، لأوضح فقط كيف يناقض هذا العمل معظمَ مبادئ البحث العلمي وقيمَه الراسخة.
يقول المؤلف في أول عبارة بعد الديباجة: «فإنه لما كثرت سهام الشبهات التي يرميها أعداء الإسلام، وتطاول أهلها، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم، وبثوا سمومهم الفكرية والسلوكية....». أصغر طالبِ ماجستير يعرف أن هذا السطر لا يصلح في بحث علمي، فهو يكتظ بالأحكام القاطعة المجازفة دون دليل أو تحليل، كما أنه يعتمد على اللغة الأدبية (المجازية) التي لا تصح في دراسة أكاديمية، وتفتقر لغته للتواضع اللائق بالباحث العلمي.. ورغم ذلك، فهذه الملاحظات هي أهون الطوام الجسام، حين تكمل قراءة المقدمة العصماء لتجدها تعجُّ بالتكفير والتجييش والإخراج من الملة وكيْلِ التهم بالزندقة والنفاق والطائفية.
يفتتح المؤلف (أهمية الموضوع) بقوله: «إن من أخطر وأشنع ما فعله أعداء الإسلام لتحصيل تلك المطالب الخبيثة، وتحقيق تلك المقاصد الضالة ما اتخذ في زمننا هذا من أساليب ثقافية ظاهرها ’الأدب والشعر والثقافة والنقد‘
وباطنها الكفر والشك والنفاق». لا أعلم حقيقة كيف يستطيع أستاذ جامعي أن يجيز مثل هذه العبارات في بحث علمي يُفترض به أن يقدم «فرضية ما» ثم يسعى لدراستها خلال البحث، من أجل إثباتها أو نفيها. أيُّ فرضية سيثبت أو ينفي هذا الباحث بعد هذا السيل من الشتائم والتكفير؟!. كيف يرضى الأستاذ الجامعي الحقيقي أن يتنازل عن دوره ليقول: إن هذا لا يصح في محاضرةِ مركزٍ صيفي، أو في مجلس سوالف في استراحة... ناهيك عن صحته في رسالة دكتوراه... (إنها رسالة دكتوراااااااه يا عالم).
مقدمة الكتاب تفيض بألفاظ وعبارات مماثلة: مثل (أعداء الإسلام، الخبيثة، المادية الملعونة، الرذائل الفكرية، فالإضلال والفساد غايتهم ومسلكهم ومنهجهم، انسلخت من دينها وقيمها، كل همهم ترويج أصناف الزيف، يدعو إلى الإلحاد والكفر ويجاهر بالكفر، أئمة الكفر، أوهام المروجين للخمور الفكرية!! رانت على قلوبهم غشاوة الغباء أو التغابي، هؤلاء الأرجاس، كهان الحداثة، يرددون أفكار الزنادقة والملاحدة، ببلاهة وغوغائية، التخريب الفكري، والتلويث الثقافي، والانحلال الخلقي).
للتذكير فقط.. كل هذا التلوث اللغوي لم يكن في شريطٍ مسموع، أو في خطبة وعظية في منبر منسي، بل كان محشوراً في مقدمة رسالة أكاديمية أجيزت بامتياز مع مرتبة الشرف من أساتذة جامعيين في مناقشة علمية (أو كان يفترض بها أن تكون كذلك)، وفي رحاب جامعة محلية عريقة.
ومن طريف المصادفات أن عام المناقشة ذاته (1420)، شهد صدورَ كتابِ (حركة اللغة لشعرية)، الذي كان في أصله رسالة دكتوراه تقدم بها سعيد السريحي، ويناقش فيها محطة مهمة من محطات التحول في الشعرية العربية، بلغة راقية ومنهجية مميزة.. غير أن التاريخ يذكر (وكيف له أن ينسى) اجتماعاً في العام 1409هـ، حين بيّت المجتمعون النية على أن يسلبوا السريحي حقه في الدرجة، تلك التي منحته إياها لجنةٌ متخصصة في مناقشة علمية.. رأى المجتمعون أنهم أكبرُ من التخصص -وأقلّ من النور- فظلموا السريحي، حين وافقوا «على توصية اللجنة (المنبثقة من مجلس الجامعة) بعدم إجازة رسالة الدكتوراه للطالب»، «لما اشتملت عليه من أفكار وعبارات ومنهج غامض... حيث ظهر أن هذه الرسالة متأثرة بمناهج غربية غريبة». ولتكتمل المسرحية، فقد طلب المجتمعون -كما يذكر المحضر- من السريحي «الرجوع والتوبة». هكذا.. سلبوه حقه في وضح «الظلام».
هذا ما يمكن أن نتوقعه حين تترك الجامعة دورها في دفع عجلة التقدم لتتحول بعض قاعاتها إلى ما يشبه «محاكم التفتيش».. الجامعة هي مركز التنوير الأول، لا يمكن لها أن تتنازل عن هذا الدور.. هذا هو قدرها منذ أصبحت المؤسسةَ التي تقود التغيير وتوجه دفة التنمية.
اليوم.. يحضر سعيد السريحي بوصفه علماً من أعلام الوطن، وأحد أهم رموزه الثقافية، ويحضر كتابه بوصفه نموذجاً للتفكير النقدي، ومرجعاً مهماً للمنهجية التي يُفترض بالباحث الجاد أن يتبعها في التعامل مع التراث الأدبي الثري (أنا أعتمد كتابه لطلاب الدراسات العليا في القسم).. وهذا ليس غريباً.. ففي عالم النور، لا بد أن يظهر السريحي علماً، ولابد أن يحضر كتابه نموذجاً للبحث العلمي الرصين، والفكر المستنير، دون حاجة لامتيازات هشّة، ولا مراتبِ شرفٍ مشبوهة.
يقول المؤلف في أول عبارة بعد الديباجة: «فإنه لما كثرت سهام الشبهات التي يرميها أعداء الإسلام، وتطاول أهلها، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم، وبثوا سمومهم الفكرية والسلوكية....». أصغر طالبِ ماجستير يعرف أن هذا السطر لا يصلح في بحث علمي، فهو يكتظ بالأحكام القاطعة المجازفة دون دليل أو تحليل، كما أنه يعتمد على اللغة الأدبية (المجازية) التي لا تصح في دراسة أكاديمية، وتفتقر لغته للتواضع اللائق بالباحث العلمي.. ورغم ذلك، فهذه الملاحظات هي أهون الطوام الجسام، حين تكمل قراءة المقدمة العصماء لتجدها تعجُّ بالتكفير والتجييش والإخراج من الملة وكيْلِ التهم بالزندقة والنفاق والطائفية.
يفتتح المؤلف (أهمية الموضوع) بقوله: «إن من أخطر وأشنع ما فعله أعداء الإسلام لتحصيل تلك المطالب الخبيثة، وتحقيق تلك المقاصد الضالة ما اتخذ في زمننا هذا من أساليب ثقافية ظاهرها ’الأدب والشعر والثقافة والنقد‘
وباطنها الكفر والشك والنفاق». لا أعلم حقيقة كيف يستطيع أستاذ جامعي أن يجيز مثل هذه العبارات في بحث علمي يُفترض به أن يقدم «فرضية ما» ثم يسعى لدراستها خلال البحث، من أجل إثباتها أو نفيها. أيُّ فرضية سيثبت أو ينفي هذا الباحث بعد هذا السيل من الشتائم والتكفير؟!. كيف يرضى الأستاذ الجامعي الحقيقي أن يتنازل عن دوره ليقول: إن هذا لا يصح في محاضرةِ مركزٍ صيفي، أو في مجلس سوالف في استراحة... ناهيك عن صحته في رسالة دكتوراه... (إنها رسالة دكتوراااااااه يا عالم).
مقدمة الكتاب تفيض بألفاظ وعبارات مماثلة: مثل (أعداء الإسلام، الخبيثة، المادية الملعونة، الرذائل الفكرية، فالإضلال والفساد غايتهم ومسلكهم ومنهجهم، انسلخت من دينها وقيمها، كل همهم ترويج أصناف الزيف، يدعو إلى الإلحاد والكفر ويجاهر بالكفر، أئمة الكفر، أوهام المروجين للخمور الفكرية!! رانت على قلوبهم غشاوة الغباء أو التغابي، هؤلاء الأرجاس، كهان الحداثة، يرددون أفكار الزنادقة والملاحدة، ببلاهة وغوغائية، التخريب الفكري، والتلويث الثقافي، والانحلال الخلقي).
للتذكير فقط.. كل هذا التلوث اللغوي لم يكن في شريطٍ مسموع، أو في خطبة وعظية في منبر منسي، بل كان محشوراً في مقدمة رسالة أكاديمية أجيزت بامتياز مع مرتبة الشرف من أساتذة جامعيين في مناقشة علمية (أو كان يفترض بها أن تكون كذلك)، وفي رحاب جامعة محلية عريقة.
ومن طريف المصادفات أن عام المناقشة ذاته (1420)، شهد صدورَ كتابِ (حركة اللغة لشعرية)، الذي كان في أصله رسالة دكتوراه تقدم بها سعيد السريحي، ويناقش فيها محطة مهمة من محطات التحول في الشعرية العربية، بلغة راقية ومنهجية مميزة.. غير أن التاريخ يذكر (وكيف له أن ينسى) اجتماعاً في العام 1409هـ، حين بيّت المجتمعون النية على أن يسلبوا السريحي حقه في الدرجة، تلك التي منحته إياها لجنةٌ متخصصة في مناقشة علمية.. رأى المجتمعون أنهم أكبرُ من التخصص -وأقلّ من النور- فظلموا السريحي، حين وافقوا «على توصية اللجنة (المنبثقة من مجلس الجامعة) بعدم إجازة رسالة الدكتوراه للطالب»، «لما اشتملت عليه من أفكار وعبارات ومنهج غامض... حيث ظهر أن هذه الرسالة متأثرة بمناهج غربية غريبة». ولتكتمل المسرحية، فقد طلب المجتمعون -كما يذكر المحضر- من السريحي «الرجوع والتوبة». هكذا.. سلبوه حقه في وضح «الظلام».
هذا ما يمكن أن نتوقعه حين تترك الجامعة دورها في دفع عجلة التقدم لتتحول بعض قاعاتها إلى ما يشبه «محاكم التفتيش».. الجامعة هي مركز التنوير الأول، لا يمكن لها أن تتنازل عن هذا الدور.. هذا هو قدرها منذ أصبحت المؤسسةَ التي تقود التغيير وتوجه دفة التنمية.
اليوم.. يحضر سعيد السريحي بوصفه علماً من أعلام الوطن، وأحد أهم رموزه الثقافية، ويحضر كتابه بوصفه نموذجاً للتفكير النقدي، ومرجعاً مهماً للمنهجية التي يُفترض بالباحث الجاد أن يتبعها في التعامل مع التراث الأدبي الثري (أنا أعتمد كتابه لطلاب الدراسات العليا في القسم).. وهذا ليس غريباً.. ففي عالم النور، لا بد أن يظهر السريحي علماً، ولابد أن يحضر كتابه نموذجاً للبحث العلمي الرصين، والفكر المستنير، دون حاجة لامتيازات هشّة، ولا مراتبِ شرفٍ مشبوهة.