البنيوية واللسانيات: ما بقي.. وما فات!!

انتهيت في مقال الأسبوع الماضي إلى أن البنيوية كانت واحدة من أهم الحركات الفكرية للقرن العشرين وأكثرها تعقيداً، وذلك لأنها منسجمة مع الطبعة البشرية التي لا تفكر إلا ضمن سياق تحكمه العلاقات المعقدة بين عناصره. ومن المعروف أنه بالبنيوية ابتدأ المنعطف اللساني في الفكر والنقد، وذلك لتأثرها الواضح باللسانيات الحديثة. هذا التأثر مهم جداً في فهم البنيوية، وينظر له أحياناً باعتباره مجرد معلومة عابرة... لكنه تأثُّر عميق على مستوى الموقف الفلسفي أولاً، وعلى مستوى النظرة التحليلية للظواهر الإنسانية تالياً. من هنا لا يمكن فهم البنيوية ما لم تفهم الأسس المركزية للسانيات الحديثة. ومن هنا تعد فتوحات فرديناند دوسوسيور المنطلق، والقاعدة الأهم للبنيوية. فكيف كان ذلك؟

ودون دخول في التفاصيل، نجد أن دوسوسيور ركز على عدة نقاط في فهمه لطبيعة اللغة، وفي تعريفه -بناء على ذلك- لعلم اللغة الحديث:


شدد على مسألة تزامنية اللغة (على بعدها الفضائي، لا الزمني)، وهو ما قاده لتغيير الدرس اللغوي كاملاً بالنظر الوصفي إلى اللغة كما هي، وليس لتاريخها وتطورها. (وفي هذا السياق لا بد أن نتذكر دعوة البنيوية ’المتطرفة‘ للنظر إلى النص كما هو، وعدم الالتفات أبداً إلى جوانبه التاريخية الخارجية). تحدث دوسوسيور عن العلاقة بين الصوت ومعناه (الدال والمدلول) وخلص إلى أنها اعتباطية، (وهو ما يقودنا إلى مسألة -بل إشكالية- المعنى في النص الأدبي، كما تطرحها البنيوية). كذلك أشار دوسوسيور -في لفتة ذكية ومهمة جداً- إلى الفرق بين الكلام أو اللغة المستخدمة (parole) وبين اللغة/النظام (Langue) باعتبارها نظاماً معقداً يسمح بالتواصل. (وهذا بالطبع ما انعكس على البنيوية في فكرة النموذج، وفي نظرتها للنص باعتباره مرادفاً للكلام، والكتابة مرادفة للغة/النظام، أو في جنس الشعر مثلاً باعتباره مرادفاً للغة النظام، بينما نص التفعيلة هو استخدام بشري تزامني لصورة يتيحها ذلك النظام أي الشعر، وهكذا).

وأخيراً دعا دوسوسيور -واللسانيون من بعده- إلى تغيير مادة دراستهم (وتحليلهم) بتحويل الاهتمام من الكلمة إلى العلامة (الإشارة)، ورأوا أن العلامة ليست مكتفية بذاتها، في صنع الدلالة، بل تعتمد على نظام معقد من العلاقات المتداخلة والاختلافات. (ومن هنا جاءت فكرة أن النص (كاملاً) يصنع الدلالة، وليس البيت أو الكلمة أو السطر، ولا قيمة لكل هذه العناصر إلا في وجودها في البناء الكامل وفي خدمتها لصنع نظام النص).


هكذا أصبحت البنيوية حركة فكرية شاملة وطاغية حينما أخذت أفكار اللسانيات هذه، واعتمدت عليها في تحليل الظواهر الخاصة بها، وحل مشكلاتها. وتلقفت العلوم الإنسانية هذه الأفكار واعتمدت عليها في سيل من الدراسات: نذكر مثلاً دراسات ستراوس في الأنثروبولوجيا، ميرلو بونتي في الفلسفة، رولان بارت في النقد الأدبي، ألتوسير في الماركسية، ومن ثم غولدمان في بنيويته التكوينية، وكذلك طبعاً جاك لاكان في التحليل النفسي، وغير ذلك... (and the rest is history ) الباقي هو التاريخ كما يقول المثل الإنجليزي.

أخبار ذات صلة

قطار الرياض.. إنجاز يقودنا إلى المستقبل
كورنيش جدِّة والمستهترون
«الستر» قيمة حياتية وصفة ربانية
ورم عبر القارات!!
;
قصَّتي مع جبل فوجي..!!
ميزانيَّة الخير: نجاحات رغم التحدِّيات
حملة «وعد» هي السَّند
الطرق البطيئة
;
في العتاب.. حياةٌ
مهارة الإنصات المطلوبة على المستوى الدولي
مقوِّمات.. لاستقرار الشركات العائلية
ستيف هوكينغ.. مواقف وآراء
;
لا تخرج من الصندوق!
(قلبي تولع بالرياض)
سياحة بين الكتب
تمويل البلديات.. والأنشطة المحلية