هل الرواية تحرّر التاريخ؟
تاريخ النشر: 10 سبتمبر 2020 00:07 KSA
كلما ورد الحديث عن التاريخ، تضاعف الشجن والأسئلة الكثيرة: كيف نكون صادقين فيما نقوم به؟ التاريخ نقطة ضعفنا العربية على الرغم من أننا كنا أول من اهتم به بشكل دقيق وعلمي من خلال مقدمة ابن خلدون العظيمة.. هذه المقدمة التي قدمت للبشرية وسائط جديدة للمعرفة ولقراءة التاريخ خارج الخرافات لأنه منجز بشري معقد، والإنسان المسؤول عن أفعاله الإيجابية والسلبية.. في التاريخ محمول تخييلي يصعب التخلص منه، حتى عند أكثر الناس علمية.
نتساءل اليوم بكثير من الدهشة: هل تاريخ المسعودي مثلا كله تاريخ؟ ابن إياس؟ وحتى ابن خلدون، هل كل ما رووه، كان حقائق مراقبة لم يدخلها فعل القص الذي ينقض التاريخ نفسه، ولكنه يفتحه على آفاق أخرى؟ وهل قال ابن خلدون حياته في التعريف كما حدثت حرفيًا؟ ألم يكتب الكاتب المغربي ابن سالم حميش وهو يشتغل على كتاب التعريف سيرة موازية في رواية العلامة؟ هل تاريخ ابن إياس تاريخ يخلو من التفصيل المتخيل؟ ألم تأخذه اللغة في غيها؟ وهل يقول في بدائع الزهور ما قاله الغيطاني عن شخصية الزيني بركات الذي لم يذكره الكتاب الأصلي إلا تسع مرات وأعطته الرواية كل مساحاتها؟ القارئ لهذه النصوص يكتشف بسرعة التدخل الشخصي في صلب الحقيقة التاريخية الذي يقربها أكثر من فن القص والحكاية ويسحبها من صرامة التاريخ.. فالغيطاني مثلا لا يتعامل مع ابن إياس إلا «لينفيه ويتجاوزه.. وفي هذا التجاوز الذي جوهره التحويل الروائي، تفقد المادة التاريخية الأولية زمنها».. ويمكن أن نذكر في التاريخ الغربي مثال هيجل بمثاليته أو حتى كارل ماركس وهما يستدعيان الأساطير القديمة، اليونانية تحديدًا لتأكيد مقولات علمية صارمة.. أو فوكوياما وهنتجتون، من تاريخنا المعاصر وهما يقولان ما يفترضانه تاريخًا حياديًا توصيفيًا وهو في العمق ليس إلا صورة أيديولوجية، أي الاندفان في عمق ذاتية لا تعمل إلا على تقريبهما من فرضية انطلقا منها أكثر مما تقربهما من حقيقة موضوعية يتوخيانها؟ ما الفرق بين التاريخ والحكاية في نص مثل هذا مثلا، كتبه جاك روبيشو، المؤرخ المختص في: ملفات الرايخ الثالث، وصعود النازية وأفولها، يصف فيه اللحظات الأخيرة لأحد كبار النازيين، غورينغ Goering، في سجن نورنبورغ Nuremberg: «عندما وصل الكولونيل أندروس، مدير الأمن في السجن، كان غورينغ قد انتهى.. انتبه إلى ساعته.. كانت تشير إلى العاشرة وخمسين دقيقة بالضبط.. في تلك الليلة، ليلة 16 أكتوبر 1946، نقل جثمان غورينغ الثقيل والمترهل إلى قاعة الرياضات الصغيرة التي ينفتح بابها على ساحة سجن نورمبورغ حيث سجيت على منصات الشنق الثلاث، عشرة أجساد بدون روح، ما تزال دافئة، تحيط بأعناقها حبال الشنق التي قطعت عند نهاية كل عقدة...».
ماذا بقي للتاريخ أمام سحر الحكاية؟ من هنا، للتاريخ، على الرغم من صرامته، مساحة مشتركة مع الرواية، تجعل الحدود الفاصلة بين الرواية والتاريخ مغيمة قليلا وتمنح الروائي فرصة كبيرة للتعامل مع التاريخ بدون الخوف من المزالق الممكنة.. من هنا تزداد مشقة الروائي وفعل الكتابة التي تقول التاريخ لتتحرر في النهاية من قيد حقائقه.. فهو، الروائي، يشتغل على الحافات المستحيلة والضفاف التي تكاد تمحي لولا العلامات الصغيرة التي تحيلنا من حين لآخر لحقيقة ما تشغل موضوع الرواية بشكل كبير.. صحيح أن التاريخ علم بآلياته واشتغالاته، ولكننا نتحدث عن التاريخ من حيث اعتماده على آلة السرد والنقد الذي يمنح الرواية حق التفاصيل الدقيقة التي لا تدخل مطلقًا في منهجية التاريخ.. يمكن للتاريخ أن يتحدث عن قرن أو قرون متتالية في سطر وهو يقوم بعمليات التحقيب والتنضيد، بينما تتوقف الرواية عند لحظة إنسانية صغيرة كان لها الدور الحاسم في بنية الشخصية الروائية.. الروايات التاريخية في العالم تمنحنا لحظات عظيمة قفز عليها التاريخ وانبنت عليها نظم أو انهارت بسببها نظم أخرى.
يمكنني القول إن الرواية هي فن الأسئلة والتفاصيل الدقيقة التي لا تتوقف أبدًا.. فقد صاحبت الإنسان في كل أسئلته التاريخية والوجودية.. مع سرفانتس تساءلت الرواية عن جدوى قيم النبل والفروسية في عصر فرض قيم الجشع والغطرسة، مع بلزاك اكتشفت ترسخ الإنسان في التاريخ.. الرواية بهذا المعنى، رافقت عزلة الإنسان منذ بدء الأزمنة الحديثة وحددت ملامحه العميقة ومساراته التخييلية قبل أن تتحول إلى واقع مر أو جميل.. الرواية، ملتصقة بالمصائر التي يتلقاها الإنسان كأقدار تراجيدية كالأمراض والأوبئة، أو يصنعها هو بنفسه، كالحروب المدمرة لكل منجزه الإنساني.
نتساءل اليوم بكثير من الدهشة: هل تاريخ المسعودي مثلا كله تاريخ؟ ابن إياس؟ وحتى ابن خلدون، هل كل ما رووه، كان حقائق مراقبة لم يدخلها فعل القص الذي ينقض التاريخ نفسه، ولكنه يفتحه على آفاق أخرى؟ وهل قال ابن خلدون حياته في التعريف كما حدثت حرفيًا؟ ألم يكتب الكاتب المغربي ابن سالم حميش وهو يشتغل على كتاب التعريف سيرة موازية في رواية العلامة؟ هل تاريخ ابن إياس تاريخ يخلو من التفصيل المتخيل؟ ألم تأخذه اللغة في غيها؟ وهل يقول في بدائع الزهور ما قاله الغيطاني عن شخصية الزيني بركات الذي لم يذكره الكتاب الأصلي إلا تسع مرات وأعطته الرواية كل مساحاتها؟ القارئ لهذه النصوص يكتشف بسرعة التدخل الشخصي في صلب الحقيقة التاريخية الذي يقربها أكثر من فن القص والحكاية ويسحبها من صرامة التاريخ.. فالغيطاني مثلا لا يتعامل مع ابن إياس إلا «لينفيه ويتجاوزه.. وفي هذا التجاوز الذي جوهره التحويل الروائي، تفقد المادة التاريخية الأولية زمنها».. ويمكن أن نذكر في التاريخ الغربي مثال هيجل بمثاليته أو حتى كارل ماركس وهما يستدعيان الأساطير القديمة، اليونانية تحديدًا لتأكيد مقولات علمية صارمة.. أو فوكوياما وهنتجتون، من تاريخنا المعاصر وهما يقولان ما يفترضانه تاريخًا حياديًا توصيفيًا وهو في العمق ليس إلا صورة أيديولوجية، أي الاندفان في عمق ذاتية لا تعمل إلا على تقريبهما من فرضية انطلقا منها أكثر مما تقربهما من حقيقة موضوعية يتوخيانها؟ ما الفرق بين التاريخ والحكاية في نص مثل هذا مثلا، كتبه جاك روبيشو، المؤرخ المختص في: ملفات الرايخ الثالث، وصعود النازية وأفولها، يصف فيه اللحظات الأخيرة لأحد كبار النازيين، غورينغ Goering، في سجن نورنبورغ Nuremberg: «عندما وصل الكولونيل أندروس، مدير الأمن في السجن، كان غورينغ قد انتهى.. انتبه إلى ساعته.. كانت تشير إلى العاشرة وخمسين دقيقة بالضبط.. في تلك الليلة، ليلة 16 أكتوبر 1946، نقل جثمان غورينغ الثقيل والمترهل إلى قاعة الرياضات الصغيرة التي ينفتح بابها على ساحة سجن نورمبورغ حيث سجيت على منصات الشنق الثلاث، عشرة أجساد بدون روح، ما تزال دافئة، تحيط بأعناقها حبال الشنق التي قطعت عند نهاية كل عقدة...».
ماذا بقي للتاريخ أمام سحر الحكاية؟ من هنا، للتاريخ، على الرغم من صرامته، مساحة مشتركة مع الرواية، تجعل الحدود الفاصلة بين الرواية والتاريخ مغيمة قليلا وتمنح الروائي فرصة كبيرة للتعامل مع التاريخ بدون الخوف من المزالق الممكنة.. من هنا تزداد مشقة الروائي وفعل الكتابة التي تقول التاريخ لتتحرر في النهاية من قيد حقائقه.. فهو، الروائي، يشتغل على الحافات المستحيلة والضفاف التي تكاد تمحي لولا العلامات الصغيرة التي تحيلنا من حين لآخر لحقيقة ما تشغل موضوع الرواية بشكل كبير.. صحيح أن التاريخ علم بآلياته واشتغالاته، ولكننا نتحدث عن التاريخ من حيث اعتماده على آلة السرد والنقد الذي يمنح الرواية حق التفاصيل الدقيقة التي لا تدخل مطلقًا في منهجية التاريخ.. يمكن للتاريخ أن يتحدث عن قرن أو قرون متتالية في سطر وهو يقوم بعمليات التحقيب والتنضيد، بينما تتوقف الرواية عند لحظة إنسانية صغيرة كان لها الدور الحاسم في بنية الشخصية الروائية.. الروايات التاريخية في العالم تمنحنا لحظات عظيمة قفز عليها التاريخ وانبنت عليها نظم أو انهارت بسببها نظم أخرى.
يمكنني القول إن الرواية هي فن الأسئلة والتفاصيل الدقيقة التي لا تتوقف أبدًا.. فقد صاحبت الإنسان في كل أسئلته التاريخية والوجودية.. مع سرفانتس تساءلت الرواية عن جدوى قيم النبل والفروسية في عصر فرض قيم الجشع والغطرسة، مع بلزاك اكتشفت ترسخ الإنسان في التاريخ.. الرواية بهذا المعنى، رافقت عزلة الإنسان منذ بدء الأزمنة الحديثة وحددت ملامحه العميقة ومساراته التخييلية قبل أن تتحول إلى واقع مر أو جميل.. الرواية، ملتصقة بالمصائر التي يتلقاها الإنسان كأقدار تراجيدية كالأمراض والأوبئة، أو يصنعها هو بنفسه، كالحروب المدمرة لكل منجزه الإنساني.