العنصرية المتخفية

الأمراض الكبيرة والأوبئة كثيرًا ما تكشف عن أوبئة متأصلة في الأعماق وتحتاج إلى إعادة تكوين داخلي للتخلص منها.. ما لحق بالبشرية من تدمير داخلي لا يمكن الاستهانة به.. من ضمن ذلك مرض العنصرية التي أصبحت واحدة من سمات العصر الذي نعيشه.. من كثر تكرر الأعمال العنصرية أصبح الأمر مبتذلا ولا يثير الانتباه مطلقًا ويمر وكأنه لا حدث، بالخصوص في بعض البلدان الأوروبية على الرغم من أن القانون يعاقب بقوة رادعة على ذلك.. المشكلة اليوم هناك مسافة بين القانون والممارسة.. تضخيم صورة الأجنبي السيئ دفعت بالبعض ليس فقط إلى العنصرية ولكن إلى شيء يحاذي الجريمة بالمعنى الرمزي.. على الرغم من مأساة الجائحة الثقيلة، غير المسبوقة التي تعيشها البشرية، هناك عقليات وردود فعل عنصرية لا تتغير، تعطي لنفسها الحق في إهانة الآخر المختلف، حتى ولو كان أكثر إنسانية وتطورًا.. وهذا يؤكد على انهيار الإنسان وقيمه.

ما حدث، هذه الأيام، في فرنسا تحديدًا، مثير للتساؤل وقد أشعل المواقع الاجتماعية في شكل موجات احتجاجية.. بدأ الفعل العنصري مع الصينيين في بداية ظهور فيروس كورونا، وحلت محل الحذر ردود فعل شديدة العنصرية حررت اللغة الممنوعة قانونًا، كأكلة الوطاويط مثلا، وانعكس الموقف ليس فقط على الصينيين ولكن على كل من يحمل ملامح آسيوية، مما ينبئ عن جهل غير مسبوق.. كذلك الأب الذي يحذر صغيرته من الفيروس الصيني بمجرد مرور شاب آسيوي بالقرب منهم.. تطورت هذه الممارسات من الكلام إلى الفعل بإرغام مثلا شابة آسيوية على النزول من قطار الضواحي خوف العدوى.. وغيرها من الظواهر التي تكاثرت حتى ابتذلت..


الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فعندما كانت القناة الإخبارية BFMTV الفرنسية تنقل دقائق الصمت الثلاثة التي اقترحها الصينيون تكريمًا للآلاف من موتاهم، ضحايا كورونا، صدر من أحد الصحفيين كلام شديد العنصرية يبين عن خفايا بعض البشر، في وقت أن القانون يعاقب بصرامة مثل هذه الممارسات العنصرية.. قال الصحفي إيمانويل لوشيبر، في لحظة خشوع الصينيين الترحمية، وكان يظن أن المايك مغلق: إنهم يدفنون البوكيمون.. هل يعقل؟ وهل يكفي أن تعتذر القناة؟ أو حتى أن يعتذر الصحفي في صفحته في تويتر بكلام هو عذر أقبح من ذنب: هذا الصباح، أثناء بث وقفة الترحم الصينية على الضحايا صدرت مني عبارة غير لائقة، وكنت أظن أن المايك مغلق.. وكأن العنصرية مسموح بها، لكن يجب ألا يعرفها الناس..

أسوأ من هذا كله ما صرح به طبيبان فرنسيان منخرطان في التجارب والبحث عن دواء كوفيد 19، في القناة الإخبارية الفرنسية LCI، حول إمكانية إجراء التجارب الإكلينيكية الاختبارية على أفارقة حتى يتم التأكد من صلاحية اللقاح بشريًا.. ناقش البروفيسور كامي لوخت، مدير المعهد الوطني للصحة والبحث الطبي INSERM، مؤسسة تابعة للدولة، والبروفيسور جان بول ميرا، رئيس قسم العناية المشددة في مستشفى كوشان، فكرة استعمال دواء السل BCG لمعالجة المصابين بفيروس كورونا.. قال الدكتور ميرا "ألا يمكن أن نجرب أولا هذا الدواء أولا في إفريقيا؟ فهناك لا استعمال للأقنعة ولا متابعة ظبية، ولا عناية مشددة.. ويواصل: كما حدث ذلك في التجارب الخاصة بالسيدا عندما تم تجريب ذلك على المومسات لأنهم الأكثر تعرضًا للمرض والأقل وقاية منه".. ويؤيده الدكتور لوخت: "معك حق.. نفكر حاليًا في دراسة موازية في إفريقيا نحاول من خلالها أن نقوم بنفس المقاربة بالنسبة لتطبيق دواء السل BCG"..


عنصرية معلنة تجعل من الأفارقة فئران تجارب، لم يعتذر عنها أصحابها.. هذا وباء مزمن ما يزال حيًا، يجب النظر له بجدية ومحاربته بلا هوادة.. النفوس تتساوى ولا يمكن قبول عقلية تتصرف بهذا الشكل اللا إنساني المسيء ليس فقط للبلد ولكن أيضًا لشيء اسمه الإنسان وحقوقه التي يجب أن تحترم.. على البشرية اليوم أن تعيد صياغة قوانينها وثقافتها فيما يتعلق بحقوق الإنسان التي أصبحت مجرد شعارات مرفوعة فقدت الكثير من وهجها.

أخبار ذات صلة

قطار الرياض.. إنجاز يقودنا إلى المستقبل
كورنيش جدِّة والمستهترون
«الستر» قيمة حياتية وصفة ربانية
ورم عبر القارات!!
;
قصَّتي مع جبل فوجي..!!
ميزانيَّة الخير: نجاحات رغم التحدِّيات
حملة «وعد» هي السَّند
الطرق البطيئة
;
في العتاب.. حياةٌ
مهارة الإنصات المطلوبة على المستوى الدولي
مقوِّمات.. لاستقرار الشركات العائلية
ستيف هوكينغ.. مواقف وآراء
;
لا تخرج من الصندوق!
(قلبي تولع بالرياض)
سياحة بين الكتب
تمويل البلديات.. والأنشطة المحلية