"الفباريك".. رواية عثمان عابدين التي لم تكتمل
تاريخ النشر: 29 يناير 2021 21:56 KSA
هل جربت إحساس أن ترى زميلاً لك يقع مفارقًا الحياة بين يديك.. على كرسيّه، في مقرّ عمله..
الضحك والابتسامة والونسة الطازجة كانت حاضرة هنا.. قبل لحظات..
الوعد والأمل وهموم العمل وشوؤن الصحافة.. وصفحة السياسة.. لم تغلق بعد..
يجثم الموت هكذا.. فجأة..
يمسك "عثمان" قلبه المتعب، ويشخص ببصره.. ويفارق الحياة..
كل الأحداث بعد ذلك تتسارع بشكل لا يصدق..
تكاد تكذّب عينيك فيما يجري حولك؛ لو لا راسخ الإيمان بقضاء الله وقدره
الهلال الأحمر يأتي.. يكشف.. يجس.. يتفقد.. ويعلن الوفاة..
الجميع يجري في كل اتجاه.. لإنهاء الإجراءات..
الليل يمضي في اتجاه نهار اليوم الجمعة.. ليرقد "عثمان" في لحده بمقبرة الرحمة..
ثمة حزين عميق..
ثمة إحساس بفقد رجل عزيز..
ثمة ألم على رحيل نفس تركت فرحتها و"طيبتها" في كل القلوب ومضت..
تعود..
وتمد يدك لتغلق ما تركه مفتوحًا.. لتطالع على صفحة شاشة حاسوبه رواية "الفباريك"..
هي.. إذًا.. كانت آخر ما كان يعالجه من كتابة بعد فراغه من "صفحة السياسة"..
تقرأ.. وتغالب دمعك.. وتعجب لهذه الروح المبدعة التي خبأت هذه "الوسامة" في صقيل العبارة، ولم تنل منها محرقة "الصحافة"..
"الفابريك" لكم.. طالعوا فيها "عثمان" القاص الذي يعرفه القليلون.. والروائي الذي نتعرّف إليه اليوم في مشروع لم يكتمل.. تركه لنا مفتوحًا تحت عنوان "الفباريك"..
****
رواية
عثمان عابدين
إُلملم كتبي .. أوراقي المبعثرة هنا وهناك.. أفكاري مشتتة.. دخلت إلى السعودية أحلم بعيش هنئ .. حطامًا خرجت في محاولة يائسة لأن استعيد شيئًا يسيرًا من إلق خبا أو كاد ..
كثيرًا ما يخدع الكاتب نفسه وهو يبني سردًا جسيمًا لأحداث عفا عليها الزمن، وتحولت إلى تراث "أي والله"؛ لكنه يتشاغل بها حتى يؤلّف رواية تغطي بالكاد تصحّر رؤيته للعالم والمحيط المتغير المتبدل اللاهث..
ضاقت نفسي وأنا أفرز كتبًا أحضرتها من بلادي لأقراها في هواء السعودية الطلق.. الزمن لم يسعفني.. أو صراحة انشغلت باللهث خلف الحصول على المال، والذي على قلّته كنتُ أخرقَ في إنفاقه.. مظنتي أننى جافيت الخرطوم.. سلوتها ذات مساء جذل طربان إلى الرياض؟؟ انحشرت في جلابية صوف بأكمام عريضة لا تقي برد المدينة.. حينًا من الدهر مكثت بها.. لكن ناداني البحر إليه؛ فأنا ابن الماء.. هي جدة؛ ولو أنها لم تساهم بدانق واحد في عملية اغتيالي المعنوي؛ لكنني كنت لا أفهم هذه "الجدة"، أماشيها وأمشى معها ولا أصل إلى شيء..
ذات مرة مضيت إلى "أضم".. تشبه في جغرافيتها "قَرِّي"، التي تقع قرب جبل الرويان شمالي الخرطوم.. لأول مرة أرى شوكًا وحسكنيتًا وضريساء وجبال مسننة وعُشَر.. ورجعت حزينًا.. ملتاعًا وباكيًا.. أنا كثير دموع.. .. ولو أدبرت ما استقبلت لكانت معادلتي الرجوع للوراء، لأرفض في عام 89 الخروج من السودان ....
زفرت..
"علي" لا يجاملني؛ لكنني في دخيلة نفسي بدأت أبحث عن الإحساس العميق في تلك الرواية.. هل هي خلاصة تجربتي، أم هي وصفٌ لحياة لم أعشها أنا؛ لكنما عاشتها شخصية أخرى.. وكل ما رأيته.. سرحان جميل.. أخيلة بعيدة طاردتها في ليالي المنافي، ولم أستطع الإمساك بها..
أنا حزين ومصدوم، دائما في حالة هلع وخوف، أكتب لأصدقائي وأرجع صفر اليدين، كما في كل شؤوني الأخرى ومآلاتي..
ويهمهم:
حزمت كتبي جيدًا.. ذهبت للبحر.. هل أنا أودّعه؟؟
اهتمامي كان منصبًّا على هذه النقطة.. وأنا في الوطن البديل.. بداية تأشيرة خروجي النهائي من شاطىء جدة الممتد بصريًّا إلى أن يغيب الماء في حضن الأرض، أو تغيب هي في ظهره المنحني..
كنت أترقّب أصدقاء وصديقات حجازيون وحجازيات قد يأتون لوداعي... بائن ومختفي .. ظاهر وباطن .. متلاشى ومتشكل .. أحسست بحمى خفيفة .. هزة زنننن .. ارتعاشة..
لا شيء في هذه الحياة يدوم..؛
أبحث عن أصدقائي في مهنة الصحافة؛ واحدًا تلو الآخر.. أتوقعهم.. يكون حضورهم بهيًا.. ماضويًا لأمسك بأكفهم لأطمئن على عافية روحي وشهيق وزفير بدني.. لم تبقَ لنا إلا الذكريات، وصوت المغني "رحت في حالك نسيتني"..
جربت هذا البكاء الجارح.. الأنين المفجوع.. العويل الهادر..
رميت حزنى ومضيت.. طيفًا يستعرض ما جرى في الحاضر، وما سيجرى في المستقبل..
غبت.. سريت.. ومن سرى رأى...
وماذا تفيد الكتابات العجولة
وطن هارب.. وتوزعت في الأماكن.. أرجو لملمة خاطر مكسور، أو بُهرة ضوء أرى عبرها سنين تهت فيها، تغبّرت أقدامي.. لم ألحظ شيئًا ذا معنى..؛ لأني رهنت أحلى سنين عمرى إلى لهث فضفاض، لم أتبين حدود مده وجزره...
دفنتني الصحافة في دغلها الكثيف.. ويبقى الخروج منها إلى لغة لينة مضيئة وبارقة مستحيل من المستحيلات..
أتساءل؛ وأنا في هذا الطريق الوعر عن الذي قادني إلى هذه "الفجّة" "المكان".
إن حواشات "مزارع" القطن التي غادرتها..؛ كان محصولها أبيضَ، لينًا، ناعمًا، بسيطًا؛ مثل آمال حبيبتي.. مصرعي الأوّل كان على يديها.... صحت لحظتها.. وانا دائم الفجيعة.. باكٍ عند مصرعي لأي سبب.. نازف:
***
كانت هذه الصور تتزاحم في خيالي... وأنا أغذُّ السير مسافرًا إلى "إقليم المجازر الكبرى.. الإبادة الجماعية.. إلى دارفور.. خارجًا من سوق ليبيا.. إلى أراضٍ مفتوحة، وسهول واسعة.. رمال كثيفة، وجبال تظهر هنا وهناك.. مزارع.. ومئات من قطعان الماشية.. قبائل.. تقاليد.. تجانس اللاتجانس.. اندغام وانفكاك..
امتطيت هذه الشاحنة في زمن سابق... رفع المُساعد "صبي السائق" عقيرته:
وتمتد سهول غرب السودان.. إطارات الشاحنات "اللَّوَاري" حفرت مجرًى عميقًا..
حذّرك "آدَمُو"؛ الفراش بمبنى الصحيفة الرئيسى بالخرطوم، من مخاطر الرحلة إلى دارفور:
"آدَمُو" فرّ من مناطق الحرب والتهميش، وأتى إلى الخرطوم.. تورّط - كما قال لك - في حبّ محرّرة كان يُسمّيها: "الأبيض ضميرك"، دائما رهن إشارتها.. طلباتها دائمًا حاضرة ..
ذات يوم باح لها:
لم تحفظ سرّه.. رفعت عقيرتها مستنكرة:
بعد اسبوع ماتت هي..
قال الأطباء: "سكتة قلبية"..
رحل "آدَمُو" واخذها معه..
لماذا تسلل "آدم" إليَّ في هذا الوقت بالتحديد؟
هل لأنني في هذه المهمة بحثًا عن الحقائق في دارفور؟؟
هل يقلقني تحذيره من "المليشيات وعنفها"، وربما أُقتل ..؟؟
قناعتي أنني صحفي يسعى لوطن في الأحلام... قاص فشل في سرد وجدان كلي لأمة لم يرها بعد..
أصحابي حصلوا على اللوتري.. والآن "أمريكان"، وبعضهم جرى توطينه في "أستراليا.. نيوزيلندا.. بريطانيا ألمانيا وفرنسا..
هذه إحدى خيباتي.. وهو ما لامتني عليه يوما حبيبتي آمال، قبل أن تدهسني عاطفيًا..
منذ البداية كلّ شيء كان واضحًا، محدّدَ الجوانب عندي.. الأشياء عندي في المسافة بين "الوضوح والخفاء"!
رفضت بادىء ذى بدء نظرية أن الحرب التي أودت بحياة الآلاف في دارفور بسبب "جمل قتلته إحدى القبائل"، فتصدّت لها الأخرى..؛ واندلعت الحرب..
هذا ما نقلته الصحيفة التي أعمل بها.... كان المانشيت بالبنط الكبير في الصفحة الأولى:
"مقتل جمل يؤدّي إلى اندلاع حرب قبلية في دارفور"
الذاكرة تسترجع هذه اللقطات، و"اللوري" يشقّ بحر الظلمة.. "أبوضراع السائق" الذي شبع تمامًا "من خمر رخيص"، يدوس "أبنص البنزين" حتى النهاية، ويدندن بأغنية شعبية تتحدث عن المطر والنساء الممتلئات شحمًا ولحمًا، وأنا ساهٍ..
ينتبه السائق لوجود الشاويش جبارة: ..
السائق "أبو ضراع" يدندن بأغنية تمجّد أمدرمان:
أحس ببكائي.. ودعتني.. كل المشاعر والأحاسيس خاسرة .. حتى نجوم السماء كانت موغلة في البعد، نائية جدا..
وافترقنا..
دمعت عيناي.... لا.. بكيت.. بكيت .. بكيت ... وانسحبت إلى الداخل.. لقد غرقت لا أدري في بحر أنا، أو طوفان..
أحسست بيد خشنة تمسح دموعي بطرف شالٍ متسخ.. ملىء برائحة زيت الفرامل، وشحوم التشحيم.. أفقت على صوت "أبو ضراع" يقول لي:
قال ل: "أثبت.. أنت رجل"
يا للذكريات.. عندما أسرح بعيدًا ألملم لقطات حيّة لنساء دخلن في حياتي.. من بينهن "جاروفيلدا" القبرصية.. قابلتني في أحد المطارات.. لقاءً قصيرًا.. فتح بوابات القلب لمشاعر لن تطول.. متيقن تماما.. ابتعد صوتها مع هدير الطائرة .. حكيت لـ"أبو ضراع" قصّتها.. فداس "أبنص البنزين" ومضى يغنى بصوت أجش.. حكى لي مغامراته في مدينة "القضارف" المدوّرة، التي تثلج الصدر.. العسكري الصامت لم يعلّق على أي شيء.. أومات لـ"أبو ضراع".. قال لي:
- بِقيِّم في الموقف..
وضحكنا..
أخرج جبارة العسكري دفترا صغيرًا، كتب فيه شيئّا، ثم أدخله في جيبه.
***
مدينة من ذرة وسمسم.. تنوع وتعدد.. تمازج وتداخل إثني وديني.. محاصيل تتدفق.. المباني عمارات بزجاج أزرق.. والذاكرة تحتفظ بـ"قَطَاطِي من القش".. احترقت ذات مرة "قطّيتنا " في "الكمبو"؛ الحيِّ العمالي بمدينة "مارنجان".. فررت من اللّهب إلى نقطة الشرطة.. إلى حنيفة الماء في الشارع العام.. قرب حديقة مسوّرة بالأسلاك الشائكة.. نجوت.. أحسست بغبن شديد لأن "اللستك" الذي كنت أدوّره في الطرقات جاريًا قد احترق..
القضارف..
لا حدود بائنة لها.. منثورة على خط الأفق.. هنا يتجمّع الباحثون عن الثروة والسلطة.. والقاسم المشترك الأعظم "السماسرة".. تجّار محاصيل من كلّ مكان..
خرج ابن خالتي "الطيب" ذات يوم من أمدرمان مُغاضبًا... وسمعنا أنه تزوّج في "الحواتة".. بعد أن سكن فترة من الزمن في "القضارف".. لم يتتبع أثره أحد.. ومرة أخرى سمعنا أنه أنجب.. وفتح دكانًا صغيرًا في "الحواتة".. كان يسافر كل شهر إلى إثيوبيا.. يجلب من هناك "صابون لايف بوي"، وأحذية بلاستيكية.. نوعًا جيدًا من الكنزات الشتوية.. وزكائب من البن.. وأنواع مختلفة من البخور.. الطيب.. رأيته مرة واحدة.. أتذكّره بشلوخ "وشم" على وجهه.. لكن مرآه يغيب رويدًا رويدًا عن عيني..
السائق قال لي إنه يهوى هذه المدينة المعطاءة.. وعندما ترد سيرتها يكوّر كمية كبيرة من "التنباك" "الصعوط" "النشوق"، ويقذف بها تحت شفته السفلى.. ويتاوّه:
***
أنا في هذه الشاحنة أمضي في طريق يقودني إلى دارفور.. هذا ما كتبته على "تويتر"..
فعلا بدأ الخوف يتسرّب إلى دواخلي.. خاصة أن أحد أصدقائي أُتّهم بالانضمام إلى إحدى الجبهات المعارضة للنظام القائم.. حكموا عليه بالإعدام بعد أن زجّوا به في السجن عامّا كاملاً.. ثم اختفى.. لا خبر ولا أثر!!
بدات أغوص في أشجاني.. ما بين الخاص والعام.. خاطرى مبلبل.. بعيدًا بعيدًا أُدقّق النّظر.. اشتقت إلى الخرطوم..؛ التي حينما يخضرُّ العشب ينبت العشاق "وإذا وجدوا حديقة في ركن منعزل يحتمون فيها.. يتناثرون على شاطىء النيل" جياع..
هل للجائع أن يحب"؟
الضحك والابتسامة والونسة الطازجة كانت حاضرة هنا.. قبل لحظات..
الوعد والأمل وهموم العمل وشوؤن الصحافة.. وصفحة السياسة.. لم تغلق بعد..
يجثم الموت هكذا.. فجأة..
يمسك "عثمان" قلبه المتعب، ويشخص ببصره.. ويفارق الحياة..
كل الأحداث بعد ذلك تتسارع بشكل لا يصدق..
تكاد تكذّب عينيك فيما يجري حولك؛ لو لا راسخ الإيمان بقضاء الله وقدره
الهلال الأحمر يأتي.. يكشف.. يجس.. يتفقد.. ويعلن الوفاة..
الجميع يجري في كل اتجاه.. لإنهاء الإجراءات..
الليل يمضي في اتجاه نهار اليوم الجمعة.. ليرقد "عثمان" في لحده بمقبرة الرحمة..
ثمة حزين عميق..
ثمة إحساس بفقد رجل عزيز..
ثمة ألم على رحيل نفس تركت فرحتها و"طيبتها" في كل القلوب ومضت..
تعود..
وتمد يدك لتغلق ما تركه مفتوحًا.. لتطالع على صفحة شاشة حاسوبه رواية "الفباريك"..
هي.. إذًا.. كانت آخر ما كان يعالجه من كتابة بعد فراغه من "صفحة السياسة"..
تقرأ.. وتغالب دمعك.. وتعجب لهذه الروح المبدعة التي خبأت هذه "الوسامة" في صقيل العبارة، ولم تنل منها محرقة "الصحافة"..
"الفابريك" لكم.. طالعوا فيها "عثمان" القاص الذي يعرفه القليلون.. والروائي الذي نتعرّف إليه اليوم في مشروع لم يكتمل.. تركه لنا مفتوحًا تحت عنوان "الفباريك"..
****
رواية
الفباريك
عثمان عابدين
إُلملم كتبي .. أوراقي المبعثرة هنا وهناك.. أفكاري مشتتة.. دخلت إلى السعودية أحلم بعيش هنئ .. حطامًا خرجت في محاولة يائسة لأن استعيد شيئًا يسيرًا من إلق خبا أو كاد ..
كثيرًا ما يخدع الكاتب نفسه وهو يبني سردًا جسيمًا لأحداث عفا عليها الزمن، وتحولت إلى تراث "أي والله"؛ لكنه يتشاغل بها حتى يؤلّف رواية تغطي بالكاد تصحّر رؤيته للعالم والمحيط المتغير المتبدل اللاهث..
ضاقت نفسي وأنا أفرز كتبًا أحضرتها من بلادي لأقراها في هواء السعودية الطلق.. الزمن لم يسعفني.. أو صراحة انشغلت باللهث خلف الحصول على المال، والذي على قلّته كنتُ أخرقَ في إنفاقه.. مظنتي أننى جافيت الخرطوم.. سلوتها ذات مساء جذل طربان إلى الرياض؟؟ انحشرت في جلابية صوف بأكمام عريضة لا تقي برد المدينة.. حينًا من الدهر مكثت بها.. لكن ناداني البحر إليه؛ فأنا ابن الماء.. هي جدة؛ ولو أنها لم تساهم بدانق واحد في عملية اغتيالي المعنوي؛ لكنني كنت لا أفهم هذه "الجدة"، أماشيها وأمشى معها ولا أصل إلى شيء..
ذات مرة مضيت إلى "أضم".. تشبه في جغرافيتها "قَرِّي"، التي تقع قرب جبل الرويان شمالي الخرطوم.. لأول مرة أرى شوكًا وحسكنيتًا وضريساء وجبال مسننة وعُشَر.. ورجعت حزينًا.. ملتاعًا وباكيًا.. أنا كثير دموع.. .. ولو أدبرت ما استقبلت لكانت معادلتي الرجوع للوراء، لأرفض في عام 89 الخروج من السودان ....
- إيْهِ..
- .. "خلاصنا في البساطة"
زفرت..
"علي" لا يجاملني؛ لكنني في دخيلة نفسي بدأت أبحث عن الإحساس العميق في تلك الرواية.. هل هي خلاصة تجربتي، أم هي وصفٌ لحياة لم أعشها أنا؛ لكنما عاشتها شخصية أخرى.. وكل ما رأيته.. سرحان جميل.. أخيلة بعيدة طاردتها في ليالي المنافي، ولم أستطع الإمساك بها..
أنا حزين ومصدوم، دائما في حالة هلع وخوف، أكتب لأصدقائي وأرجع صفر اليدين، كما في كل شؤوني الأخرى ومآلاتي..
- لا تقسو على نفسك..
ويهمهم:
- تعرف؛ فيها نفس مختلف.. في رأسي غلاف يليق بها..
- يأتيني إحساس بأن زمن القص والسرد توقف.. بعد نصوص رائعة للطيب صالح، وجورج أمادو، وماركيز..
- باغتني: التراكم القصصى يتمخّض عن سُرّاد جدد.. "دعك عن التقليعات" هؤلاء السُرَّاد لهم قُرّاء، وعندهم تواليف متعددة، بأوجه كثر، وأحيانًا ملغّزة..
حزمت كتبي جيدًا.. ذهبت للبحر.. هل أنا أودّعه؟؟
اهتمامي كان منصبًّا على هذه النقطة.. وأنا في الوطن البديل.. بداية تأشيرة خروجي النهائي من شاطىء جدة الممتد بصريًّا إلى أن يغيب الماء في حضن الأرض، أو تغيب هي في ظهره المنحني..
كنت أترقّب أصدقاء وصديقات حجازيون وحجازيات قد يأتون لوداعي... بائن ومختفي .. ظاهر وباطن .. متلاشى ومتشكل .. أحسست بحمى خفيفة .. هزة زنننن .. ارتعاشة..
- قلت لعلي: اشحن لي كتبي.. يبدو أنني ساغرق في هذه الرواية..
لا شيء في هذه الحياة يدوم..؛
أبحث عن أصدقائي في مهنة الصحافة؛ واحدًا تلو الآخر.. أتوقعهم.. يكون حضورهم بهيًا.. ماضويًا لأمسك بأكفهم لأطمئن على عافية روحي وشهيق وزفير بدني.. لم تبقَ لنا إلا الذكريات، وصوت المغني "رحت في حالك نسيتني"..
جربت هذا البكاء الجارح.. الأنين المفجوع.. العويل الهادر..
رميت حزنى ومضيت.. طيفًا يستعرض ما جرى في الحاضر، وما سيجرى في المستقبل..
غبت.. سريت.. ومن سرى رأى...
وماذا تفيد الكتابات العجولة
وطن هارب.. وتوزعت في الأماكن.. أرجو لملمة خاطر مكسور، أو بُهرة ضوء أرى عبرها سنين تهت فيها، تغبّرت أقدامي.. لم ألحظ شيئًا ذا معنى..؛ لأني رهنت أحلى سنين عمرى إلى لهث فضفاض، لم أتبين حدود مده وجزره...
دفنتني الصحافة في دغلها الكثيف.. ويبقى الخروج منها إلى لغة لينة مضيئة وبارقة مستحيل من المستحيلات..
أتساءل؛ وأنا في هذا الطريق الوعر عن الذي قادني إلى هذه "الفجّة" "المكان".
إن حواشات "مزارع" القطن التي غادرتها..؛ كان محصولها أبيضَ، لينًا، ناعمًا، بسيطًا؛ مثل آمال حبيبتي.. مصرعي الأوّل كان على يديها.... صحت لحظتها.. وانا دائم الفجيعة.. باكٍ عند مصرعي لأي سبب.. نازف:
- "تدفق أيها الدم الحار... تمدد أيّها اللّهب في سماء الحصاحيصا.. بلدتي ومرتع صباي..
***
آدَمُو الحَنِين ..
كانت هذه الصور تتزاحم في خيالي... وأنا أغذُّ السير مسافرًا إلى "إقليم المجازر الكبرى.. الإبادة الجماعية.. إلى دارفور.. خارجًا من سوق ليبيا.. إلى أراضٍ مفتوحة، وسهول واسعة.. رمال كثيفة، وجبال تظهر هنا وهناك.. مزارع.. ومئات من قطعان الماشية.. قبائل.. تقاليد.. تجانس اللاتجانس.. اندغام وانفكاك..
امتطيت هذه الشاحنة في زمن سابق... رفع المُساعد "صبي السائق" عقيرته:
- .. الفاشر.. الفاشر الكبير... يلا.. نفر والسفر..
- "أنا الشاويش جبارة"..
وتمتد سهول غرب السودان.. إطارات الشاحنات "اللَّوَاري" حفرت مجرًى عميقًا..
حذّرك "آدَمُو"؛ الفراش بمبنى الصحيفة الرئيسى بالخرطوم، من مخاطر الرحلة إلى دارفور:
- "وأحسن ليك تاكل عيشك في الخرطوم، مالك ومال السخانة والجبخانة" !!
"آدَمُو" فرّ من مناطق الحرب والتهميش، وأتى إلى الخرطوم.. تورّط - كما قال لك - في حبّ محرّرة كان يُسمّيها: "الأبيض ضميرك"، دائما رهن إشارتها.. طلباتها دائمًا حاضرة ..
ذات يوم باح لها:
- أنا بحبّك يا "فاتن"..
لم تحفظ سرّه.. رفعت عقيرتها مستنكرة:
- آدم جنَّ .. يمين بالله آدم جنَّ ...
- "فاتن إنت يا الأبيض ضميرك"!
بعد اسبوع ماتت هي..
قال الأطباء: "سكتة قلبية"..
رحل "آدَمُو" واخذها معه..
لماذا تسلل "آدم" إليَّ في هذا الوقت بالتحديد؟
هل لأنني في هذه المهمة بحثًا عن الحقائق في دارفور؟؟
هل يقلقني تحذيره من "المليشيات وعنفها"، وربما أُقتل ..؟؟
قناعتي أنني صحفي يسعى لوطن في الأحلام... قاص فشل في سرد وجدان كلي لأمة لم يرها بعد..
أصحابي حصلوا على اللوتري.. والآن "أمريكان"، وبعضهم جرى توطينه في "أستراليا.. نيوزيلندا.. بريطانيا ألمانيا وفرنسا..
هذه إحدى خيباتي.. وهو ما لامتني عليه يوما حبيبتي آمال، قبل أن تدهسني عاطفيًا..
منذ البداية كلّ شيء كان واضحًا، محدّدَ الجوانب عندي.. الأشياء عندي في المسافة بين "الوضوح والخفاء"!
رفضت بادىء ذى بدء نظرية أن الحرب التي أودت بحياة الآلاف في دارفور بسبب "جمل قتلته إحدى القبائل"، فتصدّت لها الأخرى..؛ واندلعت الحرب..
هذا ما نقلته الصحيفة التي أعمل بها.... كان المانشيت بالبنط الكبير في الصفحة الأولى:
"مقتل جمل يؤدّي إلى اندلاع حرب قبلية في دارفور"
الذاكرة تسترجع هذه اللقطات، و"اللوري" يشقّ بحر الظلمة.. "أبوضراع السائق" الذي شبع تمامًا "من خمر رخيص"، يدوس "أبنص البنزين" حتى النهاية، ويدندن بأغنية شعبية تتحدث عن المطر والنساء الممتلئات شحمًا ولحمًا، وأنا ساهٍ..
ينتبه السائق لوجود الشاويش جبارة: ..
- أنت من وين؟
- يجيبه بلؤم: سوق سواقتك نحن البنسال مش أنت؟؟
- يسالنى أبوضرا ع: إنت من وين؟
- أجيبه: أنا من الجزيرة.. هنا زراعة القطن وحلجه.. محل "الفباريك" في مارنجان والحصاحيصا.
- يضحك : (ههههههه).. نحن في سنة 2015 ما في قطن.. بلعو الجماعة.. فككو..
السائق "أبو ضراع" يدندن بأغنية تمجّد أمدرمان:
- أنا أمدرمان.. أنا السودان.. أنا الدر ..
- أنا بسكر عشان أنبسط وأقدر أسوق "البهيمة دي" يقصد اللوري.. بلقّط القروش عشان كيفي.. وبنفقوا على النسوان البعجبني..
- "وااااااااي"..
أحس ببكائي.. ودعتني.. كل المشاعر والأحاسيس خاسرة .. حتى نجوم السماء كانت موغلة في البعد، نائية جدا..
وافترقنا..
دمعت عيناي.... لا.. بكيت.. بكيت .. بكيت ... وانسحبت إلى الداخل.. لقد غرقت لا أدري في بحر أنا، أو طوفان..
أحسست بيد خشنة تمسح دموعي بطرف شالٍ متسخ.. ملىء برائحة زيت الفرامل، وشحوم التشحيم.. أفقت على صوت "أبو ضراع" يقول لي:
- هذا قدرك..
قال ل: "أثبت.. أنت رجل"
يا للذكريات.. عندما أسرح بعيدًا ألملم لقطات حيّة لنساء دخلن في حياتي.. من بينهن "جاروفيلدا" القبرصية.. قابلتني في أحد المطارات.. لقاءً قصيرًا.. فتح بوابات القلب لمشاعر لن تطول.. متيقن تماما.. ابتعد صوتها مع هدير الطائرة .. حكيت لـ"أبو ضراع" قصّتها.. فداس "أبنص البنزين" ومضى يغنى بصوت أجش.. حكى لي مغامراته في مدينة "القضارف" المدوّرة، التي تثلج الصدر.. العسكري الصامت لم يعلّق على أي شيء.. أومات لـ"أبو ضراع".. قال لي:
- بِقيِّم في الموقف..
وضحكنا..
أخرج جبارة العسكري دفترا صغيرًا، كتب فيه شيئّا، ثم أدخله في جيبه.
***
القضارف
مدينة من ذرة وسمسم.. تنوع وتعدد.. تمازج وتداخل إثني وديني.. محاصيل تتدفق.. المباني عمارات بزجاج أزرق.. والذاكرة تحتفظ بـ"قَطَاطِي من القش".. احترقت ذات مرة "قطّيتنا " في "الكمبو"؛ الحيِّ العمالي بمدينة "مارنجان".. فررت من اللّهب إلى نقطة الشرطة.. إلى حنيفة الماء في الشارع العام.. قرب حديقة مسوّرة بالأسلاك الشائكة.. نجوت.. أحسست بغبن شديد لأن "اللستك" الذي كنت أدوّره في الطرقات جاريًا قد احترق..
القضارف..
لا حدود بائنة لها.. منثورة على خط الأفق.. هنا يتجمّع الباحثون عن الثروة والسلطة.. والقاسم المشترك الأعظم "السماسرة".. تجّار محاصيل من كلّ مكان..
خرج ابن خالتي "الطيب" ذات يوم من أمدرمان مُغاضبًا... وسمعنا أنه تزوّج في "الحواتة".. بعد أن سكن فترة من الزمن في "القضارف".. لم يتتبع أثره أحد.. ومرة أخرى سمعنا أنه أنجب.. وفتح دكانًا صغيرًا في "الحواتة".. كان يسافر كل شهر إلى إثيوبيا.. يجلب من هناك "صابون لايف بوي"، وأحذية بلاستيكية.. نوعًا جيدًا من الكنزات الشتوية.. وزكائب من البن.. وأنواع مختلفة من البخور.. الطيب.. رأيته مرة واحدة.. أتذكّره بشلوخ "وشم" على وجهه.. لكن مرآه يغيب رويدًا رويدًا عن عيني..
السائق قال لي إنه يهوى هذه المدينة المعطاءة.. وعندما ترد سيرتها يكوّر كمية كبيرة من "التنباك" "الصعوط" "النشوق"، ويقذف بها تحت شفته السفلى.. ويتاوّه:
- حليلك يا قضارف"
- إن العدالة والمساواة وتوزيع الثروة والسلطة أفضل "سيستم" لإدارة هذه البلاد..
***
إقليم الشر
أنا في هذه الشاحنة أمضي في طريق يقودني إلى دارفور.. هذا ما كتبته على "تويتر"..
- "واو" "wow"
- "ستباد ويفصلوا رأسك عن جسدك.. المليشيات.. الجنجويد.. أبوطيرة.. سيسلخون جلدك.. جيفتك ستأكلها الكلاب والذئاب..
- يا أخي تعال إلى أوروبا .. أنت مدهش، يمكن أن تصنع مستقبلاً لنفسك وأسرتك .. يمكن إعادة توطينك ..
- رد عليها "مُلتحٍ" : إنت صليبية لا تفهمين شيئًا.. مشكلة دارفور بين قبيلتين والخلاف حول جمل استغله الخونة والمارقون ليشعلوا هذه الفتنة.. غورى الله لا كسّبك"..
فعلا بدأ الخوف يتسرّب إلى دواخلي.. خاصة أن أحد أصدقائي أُتّهم بالانضمام إلى إحدى الجبهات المعارضة للنظام القائم.. حكموا عليه بالإعدام بعد أن زجّوا به في السجن عامّا كاملاً.. ثم اختفى.. لا خبر ولا أثر!!
بدات أغوص في أشجاني.. ما بين الخاص والعام.. خاطرى مبلبل.. بعيدًا بعيدًا أُدقّق النّظر.. اشتقت إلى الخرطوم..؛ التي حينما يخضرُّ العشب ينبت العشاق "وإذا وجدوا حديقة في ركن منعزل يحتمون فيها.. يتناثرون على شاطىء النيل" جياع..
هل للجائع أن يحب"؟