ذكرياتْ.. من رمضان الطيبين.. والطيّباتْ...!!
تاريخ النشر: 15 أبريل 2021 00:37 KSA
أنا لست عجوزاً.. كما أن بيني وبين الشيخوخة عمراً مديداً، وجهداً جهيداً.. ورغم ذلك، فإن لي من الذكريات التي تجعلني أنظر للمكان هذه الأيام نظرةَ غريب، مستوحشٍ من ناسه.. وجلاسه.. لا عليكم.. لا تهتموا لهذه البداية الدرامية، فنحن في رمضان.. ولعل حمى الدراما الرمضانية أصابتني..
هذه مجموعة من الذكريات.. غير البعيدة.. يفصلني -وأبناء جيلي- عنها عقدان أو ثلاثة، لا أكثر.. وإن بدت للبعض بعيدةً كعصر النهضة، أو حالمة كزمن الوحدة..
الطراطيع.. هي أول ذكرى لرمضان الطفولة، لماذا؟ الله أعلم!!
كانت الناس تفكر في الصيام والقيام، في الفطور والسحور، في الأجر والثبور، وكنا نفكر أولاً في الطراطيع!! ما الذي ربط رمضان بهذه الظاهرة؟ من صاحبُ التجربة الأولى؟ أتمنى لو أعرفه، لأسأله: ايش الهرجة؟ وليش رمضان؟! كيف سلبتَ عقولنا وقلوبنا؟ هل للأمر علاقة بفرحة استقبال الشهر وتوديعه..؟ ربما؟!
كان اليتم الرمضاني ألا تملك نقوداً تشتري بها حزمة صواريخ ومفرقعات (مفرقعات.. كلمة جميلة، أليس كذلك.. يتقلّب مخترع الطراطيع في قبره ضاحكاً). والغربة.. كانت تعني ألا تصادق ذلك الصبي المهم، الذي يجلب الطراطيع، ويبيعها، من أين.. وكيف..؟ لست أدري!! كانت سوقاً سوداء، لا يعلم سرها إلا الله.. أبي أخذنا يوماً إلى البلد، لنشتري حزمة مفرقعات بأسعار معقولة. هكذا سمعنا.. وهكذا أقنعناه. من يعرف أبي يدرك حجم المخاطرة التي خضناها.. وحجمَ الغرابة، غرابة موافقته!!
في البلد، في شارع قابل، كان الأمر أشبه بعمليات التهريب.. (دفعنا الفلوس.. وانتظرنا، ثم استلمنا البضاعة، وأحرقناها.. وأزعجنا راحة الجيران.. لم يأخذنا أبي بعد ذلك مرة أخرى).
في رمضان أيضاً كانت حمى أخرى تصيبنا، نسميها حمى البرجون (اللُب/المصاقير). منافسات ليلية ونهارية لا تنتهي.. نجمعها في أكياس السكر وفي خياش الرز... وفي آخر الشهر، تنتفخ الغلال.. وتخلو الجيوب..!! ألعاب أخرى كنا نمارسها أيضاً، خصوصاً في رمضان؛ المدوان، وسبع حجر، وعِظِيمْ ساري، وغيرها من ألعابنا الإلكترونية المطورة!!
التلفزيون كان دائماً حكاية في رمضان، ولا يزال عند البعض.. بالنسبة لي، فقد أهميته، لا لزهدي، لكن لسخفه. وهذا رأيي وحسب. في رمضان كنا لا نعرف غير القناة الأولى.. في بعض الحالات، كان وجود التلفاز نعمةً لا تقدر بثمن، نعمةً غير مضمونة.. لعل برنامج (حروف) كان أكثر البرامج التي أثّرت في جيلي من شباب الأمس (واليوم طبعاً). ماجد الشبل كان علامةً رمضانية مذهلة؛ صوته يسير في عروقنا، وهو يدير المسابقة، ويرفع حدة التنافس بين المشاركين. اليوم يتناقل الناس في الواتس آب وتويتر مقاطع من هذا البرنامج، يعدونها طريفة، ويضحكون.. نحن -من عشنا تلك الأيام- نبكي...
ذات رمضان.. ظهر لنا عبدالله غيث باسم (موسى بن نصير).. وفعل بنا الأفاعيل؛ كان مسلسلاً من المسلسلات الخالدة، أثّرت فينا، وسلبت ألبابنا.. أظن أن هذا المسلسل كان خلف شهرة عبدالله غيث العظيمة في المملكة، المتخصصون في الفن أعرف مني. ما أعرفه.. أنني كنت كلما قرأت أو سمعت اسم موسى بن نصير تحضر في ذهني صورة عبدالله غيث.. ولا تزال.
لا أذكر أن شيئاً في مائدة الإفطار أثار فضولي -في صغري- أكثر من التطلي. وهي كلمة تركية تعني الحلوى اللذيذة. بالنسبة لي كان التطلي أعجوبة الأعاجيب.. لا أعرف لماذا؟ مجرد كاسترد مطبوخ.. كريمة صفراء، لكني آمنت أنه من طعام أهل الجنة. (لطالما تخيلت مجاهداً أفغانياً متربعاً في الجنة، يأكل صحن تطلي). لم أتخيل نفسي معه أبداً!! ربما لعددِ المرات التي غافلتُ أمي وأكلت منه، وأنا صائم طبعاً..!! اليوم لم أعد أستسيغه أبداً.. لا بد أن الأفغاني مثلي أيضاً!!
بعد المغرب، كنا نستمع أو نشاهد علي الطنطاوي.. والطنطاوي كان ساحراً من نوع ما.. يخدّرنا بنبرة صوته العذبة، ويبث في وعينا حكاياته اللذيذة. ساعته العجيبة أثارت فضولنا جميعاً.. وقلبه الطيب حملنا إلى أصقاع الكون. كنا نصلي التراويح، وهذا لم يكن أمراً اختيارياً أبداً.. أتذكر أن المصلين لم يتجاوزوا عادة الصف الواحد، كان عدد الناس قليلاً على أية حال.
وبعد التراويح، لا صوت يعلو على صوت كرة القدم، حتى الطراطيع.. كرة القدم كانت -ولعلها لا تزال- جنوناً آخر في رمضان، لا أعرف لماذا وكيف؟ يصلح هذا أن يكون موضوع رسالة ماجستير أو دكتوراة لباحث في علم الاجتماع (رمضان وكرة القدم: دراسة سوسيولوجية). كنا نلعب في المساء حتى السحور.. وفي العصر، وأحياناً بعد الفجر. (هذا اللعب عواقبه وخيمة غالباً، كما تعلمون جميعاً). بطبيعة الحال، كان السهر واجباً في رمضان.. أظن أن جيلنا كان يعتقد أن النوم في مساء رمضان مكروه، أو معيب. اليوم، اختفى هذا الاعتقاد، وبقي السهر.
هذه مجموعة من الذكريات.. غير البعيدة.. يفصلني -وأبناء جيلي- عنها عقدان أو ثلاثة، لا أكثر.. وإن بدت للبعض بعيدةً كعصر النهضة، أو حالمة كزمن الوحدة..
الطراطيع.. هي أول ذكرى لرمضان الطفولة، لماذا؟ الله أعلم!!
كانت الناس تفكر في الصيام والقيام، في الفطور والسحور، في الأجر والثبور، وكنا نفكر أولاً في الطراطيع!! ما الذي ربط رمضان بهذه الظاهرة؟ من صاحبُ التجربة الأولى؟ أتمنى لو أعرفه، لأسأله: ايش الهرجة؟ وليش رمضان؟! كيف سلبتَ عقولنا وقلوبنا؟ هل للأمر علاقة بفرحة استقبال الشهر وتوديعه..؟ ربما؟!
كان اليتم الرمضاني ألا تملك نقوداً تشتري بها حزمة صواريخ ومفرقعات (مفرقعات.. كلمة جميلة، أليس كذلك.. يتقلّب مخترع الطراطيع في قبره ضاحكاً). والغربة.. كانت تعني ألا تصادق ذلك الصبي المهم، الذي يجلب الطراطيع، ويبيعها، من أين.. وكيف..؟ لست أدري!! كانت سوقاً سوداء، لا يعلم سرها إلا الله.. أبي أخذنا يوماً إلى البلد، لنشتري حزمة مفرقعات بأسعار معقولة. هكذا سمعنا.. وهكذا أقنعناه. من يعرف أبي يدرك حجم المخاطرة التي خضناها.. وحجمَ الغرابة، غرابة موافقته!!
في البلد، في شارع قابل، كان الأمر أشبه بعمليات التهريب.. (دفعنا الفلوس.. وانتظرنا، ثم استلمنا البضاعة، وأحرقناها.. وأزعجنا راحة الجيران.. لم يأخذنا أبي بعد ذلك مرة أخرى).
في رمضان أيضاً كانت حمى أخرى تصيبنا، نسميها حمى البرجون (اللُب/المصاقير). منافسات ليلية ونهارية لا تنتهي.. نجمعها في أكياس السكر وفي خياش الرز... وفي آخر الشهر، تنتفخ الغلال.. وتخلو الجيوب..!! ألعاب أخرى كنا نمارسها أيضاً، خصوصاً في رمضان؛ المدوان، وسبع حجر، وعِظِيمْ ساري، وغيرها من ألعابنا الإلكترونية المطورة!!
التلفزيون كان دائماً حكاية في رمضان، ولا يزال عند البعض.. بالنسبة لي، فقد أهميته، لا لزهدي، لكن لسخفه. وهذا رأيي وحسب. في رمضان كنا لا نعرف غير القناة الأولى.. في بعض الحالات، كان وجود التلفاز نعمةً لا تقدر بثمن، نعمةً غير مضمونة.. لعل برنامج (حروف) كان أكثر البرامج التي أثّرت في جيلي من شباب الأمس (واليوم طبعاً). ماجد الشبل كان علامةً رمضانية مذهلة؛ صوته يسير في عروقنا، وهو يدير المسابقة، ويرفع حدة التنافس بين المشاركين. اليوم يتناقل الناس في الواتس آب وتويتر مقاطع من هذا البرنامج، يعدونها طريفة، ويضحكون.. نحن -من عشنا تلك الأيام- نبكي...
ذات رمضان.. ظهر لنا عبدالله غيث باسم (موسى بن نصير).. وفعل بنا الأفاعيل؛ كان مسلسلاً من المسلسلات الخالدة، أثّرت فينا، وسلبت ألبابنا.. أظن أن هذا المسلسل كان خلف شهرة عبدالله غيث العظيمة في المملكة، المتخصصون في الفن أعرف مني. ما أعرفه.. أنني كنت كلما قرأت أو سمعت اسم موسى بن نصير تحضر في ذهني صورة عبدالله غيث.. ولا تزال.
لا أذكر أن شيئاً في مائدة الإفطار أثار فضولي -في صغري- أكثر من التطلي. وهي كلمة تركية تعني الحلوى اللذيذة. بالنسبة لي كان التطلي أعجوبة الأعاجيب.. لا أعرف لماذا؟ مجرد كاسترد مطبوخ.. كريمة صفراء، لكني آمنت أنه من طعام أهل الجنة. (لطالما تخيلت مجاهداً أفغانياً متربعاً في الجنة، يأكل صحن تطلي). لم أتخيل نفسي معه أبداً!! ربما لعددِ المرات التي غافلتُ أمي وأكلت منه، وأنا صائم طبعاً..!! اليوم لم أعد أستسيغه أبداً.. لا بد أن الأفغاني مثلي أيضاً!!
بعد المغرب، كنا نستمع أو نشاهد علي الطنطاوي.. والطنطاوي كان ساحراً من نوع ما.. يخدّرنا بنبرة صوته العذبة، ويبث في وعينا حكاياته اللذيذة. ساعته العجيبة أثارت فضولنا جميعاً.. وقلبه الطيب حملنا إلى أصقاع الكون. كنا نصلي التراويح، وهذا لم يكن أمراً اختيارياً أبداً.. أتذكر أن المصلين لم يتجاوزوا عادة الصف الواحد، كان عدد الناس قليلاً على أية حال.
وبعد التراويح، لا صوت يعلو على صوت كرة القدم، حتى الطراطيع.. كرة القدم كانت -ولعلها لا تزال- جنوناً آخر في رمضان، لا أعرف لماذا وكيف؟ يصلح هذا أن يكون موضوع رسالة ماجستير أو دكتوراة لباحث في علم الاجتماع (رمضان وكرة القدم: دراسة سوسيولوجية). كنا نلعب في المساء حتى السحور.. وفي العصر، وأحياناً بعد الفجر. (هذا اللعب عواقبه وخيمة غالباً، كما تعلمون جميعاً). بطبيعة الحال، كان السهر واجباً في رمضان.. أظن أن جيلنا كان يعتقد أن النوم في مساء رمضان مكروه، أو معيب. اليوم، اختفى هذا الاعتقاد، وبقي السهر.