‏في جادة قباء.. حينما يتكلم التاريخ

‏في يوم العيد رأيت أن أصلي صلاة العيد في مسجد قباء بالمدينة المنورة وفوجئت عند وصولي إلى رحاب المسجد أن صفوف ‏المصلين قد فاض بها المسجد واكتظت ساحتها ‏المحيطة به من جميع جوانبه بل وامتدت صفوفهم حتى وصلت إلى ما بعد مسجد الجمعة على بعد أكثر من 500 متر تقريبًا وقد وجد المصلون في امتداد جادة قباء بتنسيقها وأشجارها ونظافتها ورحابة مساحتها ما يغري إلى الصلاة واستماع خطبة العيد في روحانية وأمن واستقرار بل امتدت روحانية المسجد وروحانية الجادة بما حملته من عبق تاريخي إلى دواخل نفوس المصلين ‏في هذا المكان الجميل..

انتهت الصلاة والخطبة ولا تسأل عن ذلك البشر الذي يعلو الوجوه والفرح الذي ‏يهيمن على دواخل المصلين ابتهاجا بالعيد وبما تحقق من وجود هذه الجادة الرائعة في فكرتها ‏والعميقة في مفهومها والتي أحس الناس من خلالها بذلك الرابط القوي بين المسجد النبوي الشريف وبين مسجد قباء الذي أسس نبي الهدى مسجدها ‏في الأيام الأولى لهجرته عليه الصلاة والسلام ‏إلى هذه المدينة العظيمة.


‏بعد الصلاة استهوتني الجادة إلى السير عبرها نحو مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم..

سرت في هذا الطريق الجميل ‏الرائع ولم أحس في المشي الذي مشيته ساعتها..


كنت وأنا أمشي تمر بي مواكب التاريخ عبر عصوره ‏منذ أن تشرفت هذه المدينة المنورة بمقدم سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام إليها مهاجرًا وحتى يوم الناس هذا..

‏تصورت ذلك المقدم الميمون في ذلك اليوم الحار لنبي الهدى صلى الله عليه وسلم وصاحبه وقد أتى من ثنية الوداع الجنوبية ودخل بين نخيل قباء ‏وذلك الصوت لذلك اليهودي الذي يقول فيه (‏يا بني قيلة: هذا جدكم قد جاء).

‏استشعرت فرح الأنصار يوم إن أتوا مسرعين لنبي الهدى عليه السلام متقلدي السيوف والرماح مهللين ومكبرين ومرحبين ‏في غبطة وسرور بهذا القادم العظيم وصاحبه الكريم..

‏تخيلت ذلك النشيد الخالد الذي ارتفع بين جنبات قرية قباء من بنات قبيلة عمرو بن عوف الانصارية وهن يرددن:

‏طلع البدر علينا... من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا... ما دعا لله داع

‏سار الأنصار بوجوه مستبشرة ومعهم المهاجرون الأوائل الذين وصلوا المدينة وبقوا في قباء لاستقبال نبيهم ‏واتخذ الضيف الكريم دار كلثوم بن الهدم ودار سعد بن خيثمة مقراً له طيلة أيام بقائه في قباء لأيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وبنى فيها مسجد قباء ‏وهو أول مسجد صلى فيه النبي بأصحابه صلاة جهرية.

تخيلت ذلك النشاط الذي سرى في عروق الأصحاب وهم يبنون مسجد قباء وحرص كل واحد منهم على حمل الأحجارعن النبي وهو يرشد كل من أتاه ليحمل عنه بأن يأخذ غيرها مضاعفة للجهد واختصاراً للوقت وحرصًا منه عليه الصلاة والسلام في الهمة والمشاركة وسرعة الإنجاز..‏

‏تذكرت ذلك الإصرار الذي ظهر به بنو سالم بن عوف في بطن وادي رانوناء يوم أن أتاهم الحبيب صلى الله عليه وسلم ضحى الجمعة في نفس الأسبوع الذي وصل فيه في طريقه إلى المدينة يوم أن وقف عتبان بن مالك زعيم القبيلة ‏ممسكًا بخطام الناقة وهو يقول: (‏أنزل فينا يا رسول الله فإن فينا العدد والعدة والحلقة ‏ونحن أصحاب ‏العصا والحدائق والدرك.. والله يا رسول الله لقد كان الرجل من العرب يدخل هذه البحرة خائفًا فيلجأ إلينا فنقول له: قوقل حيث شئت..).. ‏فتبسم عليه السلام وقال: (‏خلو سبيلها فإنها مأمورة..)

‏فقالوا يا رسول الله تمكث أياماً عند بني عمنا وتمر بنا ‏ولا تنزل فيكون ذلك فخر لهم علينا الى الأبد؟!.. ‏فنزل عندهم يومه ذاك وأدركته صلاة الجمعة، فصلى أول جمعة صلاها في الإسلام في مكان مسجدهم ولم يصل الجمعة في مكة ‏لعدم أمنه على نفسه وعدم سلطانه عليهم وخطب أول خطبة جمعة له في الإسلام...

وارتحل الموكب النبوي على ناقته القصواء ومر بديار بني العجلان قوم عبادة بن الصامت وعاصم بن عدي فقالوا يا رسول الله أنزل عندنا فقال: (إنها مأمورة..) ‏يعني ناقته، ‏ثم مر بديار بني الحبلى رهط عبدالله بن أبي المنافق وسار حتى مر ببني ساعده فتلقاه سعد بن عبادة وأبو دجانة وقالوا يا رسول الله: أنزل عندنا ففينا العدد والعدة والثروة والحلقة فقال: (خلو سبيلها فإنها مأمورة..).

‏ثم مر في بني عدي بن النجار وهم أخوال جده عبدالمطلب حيث أن أم عبدالمطلب سلمى بنت عمرو النجارية وكانت منازلهم بالقرب من المسجد النبوي فقال أبو سليط وصرفة ابن أبي انيس وقومهم:‏ يا رسول الله نحن اخوالك فلا تتجاوزنا فقال: (خلو سبيلها.. فإنها مأمورة).

‏وكان الركب النبوي كلما مر بحي من أحياء الأنصار يرى النساء على الأجاجير (السطوح) ‏وهن يضربن بالدفوف ويرددن نشيد (‏طالع البدر علينا.. من ثنيات الوداع).

‏تخيلت.. يومًا أن بركت ناقته في مكان منبره في مسجده الشريف وأحاط به نفر من أخواله من بني النجار ومعهم بعض بناتهم الصغيرات وهن يضربن بالدفوف ويرددن نشيداً منه قولهن:

نحن بنات النجار... يا حبذا محمد من جار

‏فيلتفت إليهن المصطفى عليه الصلاة والسلام مبتسماً ويقول لهن (أتحببني..) قلن: نعم يا رسول الله، ‏فقال صلى الله عليه وسلم: (‏وأنا والله أحبكن.. وأنا والله أحبكن.. وأنا والله أحبكن).

‏كل هذه الصور قد استشعرتها وتذكرتها وأنا أسير في جادة قباء الى الحرم ‏وهذه حلقة من حلقات إيحاءات وتصورات مرت بخيالي ‏أملتها عليَ الجادة بما هيئت به من هدوء ونظافة وتشجير وحسن تنسيق‏ وصدقوني بأنني سرت في الطريق من المسجد النبوي إلى قباء خلال ستين عامًا بالمدينة بحمد الله ولم أشعر بما شعرت به هذه المرة لأنني أسير واتصور ربط قباء بالمسجد الشريف بطريق منسق يقدم التاريخ بعمقه وأصالته وصدقه وعفويته ‏هذا وأنا من أهل المدينة فكيف بزائر المدينة وهو يرى في كل شبر بهذه المدينة المقدسة تاريخًا يتكلم ويخاطب وينطق بالصورة التي تخيلها ورسمها وعمقها سمو أمير المدينة المنورة ‏المثقف الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- الذي استطاع من خلال هذا الربط بين المسجد النبوي ومسجد قباء بجادة تقدم التاريخ لزائر المدينة الذي يرغب أن يشم رائحة هذا البلد المقدس والذي مشى على ترابه نبي الهدى وصحابته الأبرار وبجانب ذلك يحس الزائر من خلال‏ سيره زائراً وسائحاً ومستطلعاً تلك الخدمات الجليلة التي تقدم له وسبل الراحة التي تهيئ له الاستشعار الروحي وقراءة التاريخ في مدينة الحب والصدق والإبداع والحضارة..

‏‏وأضيف بعد ‏هذا أن جادة قباء قد رسمت أمام زوار المدينة المنورة تلك البطولات لنبي الأمة وصحابته الكرام في غزواته وسراياه في انتصاراته وفي دعواته لمدينته الحبيبة ولساكنها على مر العصور والأزمان..

وجادة قباء قد وثقت موضوعات مساجده وصلواته وتعاليم الإسلام والدعوة الحنيفية الصادقة.. ‏وجادة قباء قدمت استشعار التوحيد صافياً نقياً ونبذت الشرك بكل صوره وأشكاله والعصبيات بكل معانيها.. وجادة قباء هي التاريخ الناطق الذي يقول لكل سائر ومفكر بل لكل البشر على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم من هنا نبع الإسلام ومن هنا سطع النور ومن هنا تلقى العالم دعوة الحق صافية نقيه لأن الجادة قد تشرفت بمواطئ أقدام وأصوات وخطط ورايات الإسلام الخفاقة فما من بطل مسلم في العهد النبوي والراشدي إلا وقد وطئت قدماه هذه الأرض وما من صوت إلا وتسجلت أصداؤه في جنبات الجادة الخالدة وما من راية للتوحيد إلا وقد رفرفت على ضفافها.

فجادة قباء بعمقها وفكرتها تاريخ ناطق موثق يرتبط بنبي الأمة وصحابته الكرام ومدينته العظيمة وكل من سار على هذه الجادة سوف يستشعر كل تلك المعاني في سيره من المسجد النبوي الشريف الى مسجد قباء المنيف.

أخبار ذات صلة

صداقة المصلحة
صداقة المصلحة
وبالشكر تدوم النعم
الحوراء إلى أين؟!
الحوراء إلى أين؟!
أربعة وتسعون عامًا من الخير تجنون
أربعة وتسعون عامًا من الخير تجنون
;
وطني.. جنتي
وطني.. جنتي
التراث وحماية ثرواتنا الطبيعية
التراث وحماية ثرواتنا الطبيعية
ثلاثيَّة الحروف
ثلاثيَّة الحروف
اليوم العالمي للصيدلي
اليوم العالمي للصيدلي
;
وطن السؤدد.. بماذا نحميه؟
وطن السؤدد.. بماذا نحميه؟
النجـاحات السعودية في التقنية والاتصالات والفضاء
النجـاحات السعودية في التقنية والاتصالات والفضاء
استلهموا إرادة الوطن
استلهموا إرادة الوطن
لا نريد احتفالًا بيوم الوطن.. فقط!!
لا نريد احتفالًا بيوم الوطن.. فقط!!
;
المواطن أوَّلًا
المواطن أوَّلًا
حكايا ليس لها نهاية
السعودية العظمى ويومها الوطني (94)
السعودية العظمى ويومها الوطني (94)
بنية تحتية تكنولوجية تعليمية متكاملة
بنية تحتية تكنولوجية تعليمية متكاملة