كتاب
السريحي وتحرير المجاز.. من سجن النحاة والمناطقة
تاريخ النشر: 16 سبتمبر 2021 00:19 KSA
من خلال كتابه (تحرير المجاز: هامش على جهود لطفي عبدالبديع اللغوية)، الذي ظهر -بهدوء ودون ضجيج- مطلع العام 2019، يمارس سعيد السريحي هوايته الأثيرة في تقويض السلطات الوهمية معتمداً على تحليل الخطاب.. أصحاب السلطة المزعومة في هذا المقام زعموا أن لهم الحق في السيطرة على اللغة، ومن ثم السيطرة على ثنائية المجاز والحقيقة، وهي سلطة تجاذبها -بمستويات متباينة- النحاة أولاً، والمناطقة وعلماء الكلام.
وكما فعل ميشيل فوكو في طوره الأركيولوجي، يعود السريحي للتاريخ بحثاً عن المقولات الأولى التي أسست لهذه المفاهيم (الحقيقة والمجاز)، وكانت سبباً في تأطير الفكر حولها.. وينقل الزواوي بغورة قول فوكو في مقالة لهذا الأخير بعنوان (فظاعة النقد): «إن التاريخ هو الذي يجعل ضرورياً شكلاً من أشكال الفكر»، من هنا يتولى فوكو بنفسه في مشروعه مساءلة «المناهج والحدود والموضوعات المتعلقة بتاريخ الأفكار»، هادفاً إلى «القضاء على آخر الإكراهات [أو القيود] الأنثروبولجية»، وإلى محاولة إظهار آلية تكوّن تلك الإكراهات والقيود.. وهذا ما يفعله السريحي مع مفهوم (المجاز) حين يبدأ في تتبع تاريخه تتبعاً نقدياً، يعيد فيه المقولات إلى سياقاتها، ثم يناقشها، ويكشف الجوانب المخبأة التي تظهر هشاشة منطقها أحياناً.. يقسم الكتاب إلى بابين: يتناول الأول (آليات النحو وأقانيم المنطق)، فيما يتعامل الثاني مع علاقة (المجاز وأنطولوجيا اللغة).
يعالج الباب الأول قضايا مركزية في تحديد مفاهيم الحقيقة والمجاز في التراث النحوي، حيث يسائل في الجزء الأول (مأزق الكلمة المفردة) النقاشَ الدائر حول تفسيرات لفظ (كلمة) في بيت الألفية: (وكلمة بها كلام قد يؤم)، مبيناً اضطراب التفسيرات التي ذهبت إلى أن الكلمة عند العرب تستخدم للدلالة على الكلام مجازاً مرسلاً أو نوعاً من الاستعارة، لينتهي النحو إلى «اعتبار دلالة الكلمة على الكلمة المفردة عند النحاة هي الحقيقة»، ودلالتها على الكلام مجرد مجاز، لم يوله النحاة اهتماماً كافياً.
يأخذ السريحي على الشراح والنحاة الذين همشوا استخدام ابن مالك (كلمة) للدلالة على الكلام رغم اطراد الشواهد والأدلة التي تقود إلى أن يصبح الأصل، لكنّ اهتمام النحو انصب على الكلمة، ومنها انطلقت معظم أبوابه، حتى أصبح هذا مرض النحو «مذ تأسست قواعده على الأخذ بالكلمة المفردة على نحو احتاج بعده النحاة إلى التزوّد بمقولات المنطق كي يعيدوا بناء العلاقة بين ما اعتبروه مكونات الجملة التي كانوا يرون أنها في أصلها كلمات مفردة كما جرى العرف لديهم على الأخذ بها».
في منتصف الطريق في (أركيولوجيا المعرفة)، يتوقف فوكو للتنبيه على أنه من الخطأ المخل عند البحث عن مبادئ تميّز خطاب ما، التوقف عند ظاهر الموضوعات الفكرية (كما تبدو في خطابها السطحي)، ويتساءل: «ألا ينبغي على الأصح أن نبحث عن تلك المبادئ في تبعثر نقط الاختيار التي يسمح بها الخطاب؟».. وتكشف ممارسة السريحي عن سلوك مشابه في تتبعه للمجاز في هذا الكتاب، حين يستمر في مناقشة (أزمة التعريفات والحدود) ومشكلة (تعطيل اللغة) عند النحاة واللغويين القدماء، وحين ينظر في (استحكام المنطق) على فكرة المجاز العقلي عند البلاغيين المتأثرين بآراء المناطقة وعلماء الكلام.. وحين ينهي البابَ -كذلك- باستحضار مشاركة ابن تيمية في هذا النقاش، ضمن سياق مناظرته للمتكلمين والمناطقة ومحاولة شيخ الإسلام ردَّ الاعتبار في صناعة المعنى إلى السياق الاجتماعي الذي ورد فيه القول بالضرورة.
وإذا كانت هذه المشاركة من أحد علماء الأمة المؤثرين لافتة للانتباه، فإن إشارتها لسلوك اكتساب الطفل للغة واستخدامه مثالاً في الحوار، أمرٌ يستحق الوقوف والتحليل، وذلك لاتفاقها في بعض جوانبها مع نتائج البحث الحديث في علم اللسانيات (وعلم اللغة النفسي تحديداً).. يستمر الكتاب في بابه الثاني في إيراد آراء الفلاسفة والنقاد واللسانيين في العصر الحديث وتحليلها، ليثبت في المحصلة النهائية أن اللغة مجازية بطبيعتها، تتصل -عبر الحدس- بالفطرة الإنسانية الأولى، حين تكون اللغة «تعبيراً إنسانياً ينبثق من تجربة أولى للإنسان، تجربة وجودية قلقة تعبّر عن القلق الإنساني والحيرة أمام عالم تحيط به معالمه بالإنسان يسعى إلى التعرف عليها بقدر ما يستشعر ما يمكن أن يشكله من تهديد لوجوده حين كان غريباً عن الأرض».
الملاحظة التي استرعت انتباهي في نقاش الكتاب لمسألة أصالة المجاز في اللغة، أنها لم تتطرق -بقدر كافٍ- لمسألة العلاقة بين الدال والمدلول؛ تلك التي أشبعتها اللسانيات الحديثة (بفروعها وتفرعاتها المختلفة) بحثاً ونقاشاً، انطلاقاً من نتيجة الاعتباطية التي قال بها دو سوسيور.. إن التسليم لكون العلاقة بين الدال (الصوت) ومدلوله (الصورة الذهنية) تمثّل انطلاقة مهمة لتناول قضية علاقة المجاز باللغة، وتجعل العلاقة بين العلامة ودلالتها علاقة طارئة غير أصيلة، وبذلك يكون المجاز أصلاً في اللغة كما يذهب اللسانيون.
أتذكر أننا عقدنا في حلقة جدة النقدية أكثر من جلسة لمناقشة بعض أبحاث الكتاب قبل أن يظهر، وحري بعملٍ (ثوري) مثل هذا أن يُخصص له ملتقى يناقش قضاياه وأبعاده، كما تفعل المؤسسات العلمية العريقة.
وكما فعل ميشيل فوكو في طوره الأركيولوجي، يعود السريحي للتاريخ بحثاً عن المقولات الأولى التي أسست لهذه المفاهيم (الحقيقة والمجاز)، وكانت سبباً في تأطير الفكر حولها.. وينقل الزواوي بغورة قول فوكو في مقالة لهذا الأخير بعنوان (فظاعة النقد): «إن التاريخ هو الذي يجعل ضرورياً شكلاً من أشكال الفكر»، من هنا يتولى فوكو بنفسه في مشروعه مساءلة «المناهج والحدود والموضوعات المتعلقة بتاريخ الأفكار»، هادفاً إلى «القضاء على آخر الإكراهات [أو القيود] الأنثروبولجية»، وإلى محاولة إظهار آلية تكوّن تلك الإكراهات والقيود.. وهذا ما يفعله السريحي مع مفهوم (المجاز) حين يبدأ في تتبع تاريخه تتبعاً نقدياً، يعيد فيه المقولات إلى سياقاتها، ثم يناقشها، ويكشف الجوانب المخبأة التي تظهر هشاشة منطقها أحياناً.. يقسم الكتاب إلى بابين: يتناول الأول (آليات النحو وأقانيم المنطق)، فيما يتعامل الثاني مع علاقة (المجاز وأنطولوجيا اللغة).
يعالج الباب الأول قضايا مركزية في تحديد مفاهيم الحقيقة والمجاز في التراث النحوي، حيث يسائل في الجزء الأول (مأزق الكلمة المفردة) النقاشَ الدائر حول تفسيرات لفظ (كلمة) في بيت الألفية: (وكلمة بها كلام قد يؤم)، مبيناً اضطراب التفسيرات التي ذهبت إلى أن الكلمة عند العرب تستخدم للدلالة على الكلام مجازاً مرسلاً أو نوعاً من الاستعارة، لينتهي النحو إلى «اعتبار دلالة الكلمة على الكلمة المفردة عند النحاة هي الحقيقة»، ودلالتها على الكلام مجرد مجاز، لم يوله النحاة اهتماماً كافياً.
يأخذ السريحي على الشراح والنحاة الذين همشوا استخدام ابن مالك (كلمة) للدلالة على الكلام رغم اطراد الشواهد والأدلة التي تقود إلى أن يصبح الأصل، لكنّ اهتمام النحو انصب على الكلمة، ومنها انطلقت معظم أبوابه، حتى أصبح هذا مرض النحو «مذ تأسست قواعده على الأخذ بالكلمة المفردة على نحو احتاج بعده النحاة إلى التزوّد بمقولات المنطق كي يعيدوا بناء العلاقة بين ما اعتبروه مكونات الجملة التي كانوا يرون أنها في أصلها كلمات مفردة كما جرى العرف لديهم على الأخذ بها».
في منتصف الطريق في (أركيولوجيا المعرفة)، يتوقف فوكو للتنبيه على أنه من الخطأ المخل عند البحث عن مبادئ تميّز خطاب ما، التوقف عند ظاهر الموضوعات الفكرية (كما تبدو في خطابها السطحي)، ويتساءل: «ألا ينبغي على الأصح أن نبحث عن تلك المبادئ في تبعثر نقط الاختيار التي يسمح بها الخطاب؟».. وتكشف ممارسة السريحي عن سلوك مشابه في تتبعه للمجاز في هذا الكتاب، حين يستمر في مناقشة (أزمة التعريفات والحدود) ومشكلة (تعطيل اللغة) عند النحاة واللغويين القدماء، وحين ينظر في (استحكام المنطق) على فكرة المجاز العقلي عند البلاغيين المتأثرين بآراء المناطقة وعلماء الكلام.. وحين ينهي البابَ -كذلك- باستحضار مشاركة ابن تيمية في هذا النقاش، ضمن سياق مناظرته للمتكلمين والمناطقة ومحاولة شيخ الإسلام ردَّ الاعتبار في صناعة المعنى إلى السياق الاجتماعي الذي ورد فيه القول بالضرورة.
وإذا كانت هذه المشاركة من أحد علماء الأمة المؤثرين لافتة للانتباه، فإن إشارتها لسلوك اكتساب الطفل للغة واستخدامه مثالاً في الحوار، أمرٌ يستحق الوقوف والتحليل، وذلك لاتفاقها في بعض جوانبها مع نتائج البحث الحديث في علم اللسانيات (وعلم اللغة النفسي تحديداً).. يستمر الكتاب في بابه الثاني في إيراد آراء الفلاسفة والنقاد واللسانيين في العصر الحديث وتحليلها، ليثبت في المحصلة النهائية أن اللغة مجازية بطبيعتها، تتصل -عبر الحدس- بالفطرة الإنسانية الأولى، حين تكون اللغة «تعبيراً إنسانياً ينبثق من تجربة أولى للإنسان، تجربة وجودية قلقة تعبّر عن القلق الإنساني والحيرة أمام عالم تحيط به معالمه بالإنسان يسعى إلى التعرف عليها بقدر ما يستشعر ما يمكن أن يشكله من تهديد لوجوده حين كان غريباً عن الأرض».
الملاحظة التي استرعت انتباهي في نقاش الكتاب لمسألة أصالة المجاز في اللغة، أنها لم تتطرق -بقدر كافٍ- لمسألة العلاقة بين الدال والمدلول؛ تلك التي أشبعتها اللسانيات الحديثة (بفروعها وتفرعاتها المختلفة) بحثاً ونقاشاً، انطلاقاً من نتيجة الاعتباطية التي قال بها دو سوسيور.. إن التسليم لكون العلاقة بين الدال (الصوت) ومدلوله (الصورة الذهنية) تمثّل انطلاقة مهمة لتناول قضية علاقة المجاز باللغة، وتجعل العلاقة بين العلامة ودلالتها علاقة طارئة غير أصيلة، وبذلك يكون المجاز أصلاً في اللغة كما يذهب اللسانيون.
أتذكر أننا عقدنا في حلقة جدة النقدية أكثر من جلسة لمناقشة بعض أبحاث الكتاب قبل أن يظهر، وحري بعملٍ (ثوري) مثل هذا أن يُخصص له ملتقى يناقش قضاياه وأبعاده، كما تفعل المؤسسات العلمية العريقة.