كتاب

الأجناس الأدبية الرئيسة: شعر وسرد ونثر.. أما بعد

فإني كنت أعتقد أن هذه معلومة قارة (سارة) في نفوس وعقول المتخصصين في حقل الأدب، ممن قرروا العيش بيننا جسداً وعقلاً في هذا الزمان، لكني لاحظت بعد استقراء وملاحظة أن الحال ليست كذلك، وأن كثيراً لا يزالون يرون أن الأجناس الأدبية شعر ونثر فقط، وأن السرد ينضوي تحت فنون النثر.. وهذا لعمري خلط عجيب ومريب.. وقد لاحظت قلقَ دكتوري وصديقي الغالي حسن النعمي (منارة السرديات والنقد في الوطن العربي) من عدم إدراك كثير من الأدباء والنقاد لهذه الـ»حقيقة»، ورفضهم إياها، ومقاومتهم لها، فقررت أن أقول، وبالله التوفيق: تأتي الفنون والآداب، مثل كل الظواهر الاجتماعية والثقافية استجابة لحاجات الإنسان عبر تطوره الفردي والاجتماعي، ومن هنا كان الشعر استجابة لغريزة إنسانية وإشباعاً لها، تلك الغريزة هي حب الإيقاع والرقص.. أما القص (الحكي) فقد جاء استجابة لغريزة إنسانية مختلفة هي حب القصص (قولها وسماعها)، من هنا كانت الحكاية والشعر مرتبطتين بتاريخ الإنسان منذ بداياته الأولى، وإذا كان الحداء مثلاً يمثّل واحدة من ألوان الشعر في طفولته الأولى، فإن الخرافات الشعبية والأساطير كانت أولى صور الحكايات وأقدمها.

بقي الأمر أن المؤسسة النقدية لم تنظر لهذه الفنون السردية المبكرة بوصفها أجناساً أدبية تستحق الدراسة، لأنها شفوية خالية من الصنعة اللغوية وتعقيدها أولاً، ولأنها شعبية ثانياً، أي أنها تنتمي لثقافة العامة التي ظلت سلطات الأدب تنأى عنها، وترى نفسها في مرتبة أعلى من أن تنظر إليها.


من هنا كان الاحتفاء بالشعر منذ القدم؛ وأنواعه الدرامية والغنائية والتعليمية... حتى المسرحية كان الاحتفاء بها لأنها شعرية، وهكذا وصلنا أول كتاب نقدي موثق لأرسطو، وهكذا جاءت فنون النثر الأدبي متأثرة بالشعر، وحملت من سماته ما يجعلها أدباً (بديع، وتكثيف، وإيقاع نثري داخلي، واستعارات وكنايات...)، فكان الاعتراف بها لعلاقتها بالشعر، وتصنيفها غصناً من شجرته الوارقة، وهكذا كانت الخطابة والرسائل والتوقيعات، وغيرها من فنون النثر الأدبي مما يهتم به النقد، ومما تعده الدارسات الأدبية فنوناً أدبية تستحق النظر والاحتفاء، لكن السرد لم يستحق النظر، وظل يحضر باستحياء في صفحات النقد، ويجلس في طرف المجلس، كطفل يتيم لا مكان له في صدر الخيمة.. خيمة السلطة، حتى حضرت الرواية الحديثة، وقلبت المعادلة، وكانت الثورة.

جاءت الرواية تطل، فغلبت الكل، صحيح أنها لم تحضر (ناضجة مكتملة) إلا مع نهاية القرن الثامن عشر، أي بعد آلاف السنين من ظهور الشعر ونضجه، إلا أنها نافسته، ثم احتلت مكانه في ظرف عقود، أصبحت الرواية بلقيسَ الفنون الأدبية وملكتها المتوجة، صارت لوحدها في كفة، وبقية فنون الشعر والنثر الفني في كفة أخرى، وغلبتهم.. نعم.. غلبتهم حضوراً، وإقناعاً، وإمتاعاً، (من ينظر في حال النشر مثلاً يجد أن ما يطبع ويوزع في الرواية يوازي وربما يفوق كل ما يطبع في غيرها من الفنون الأدبية الأخرى مجتمعةً).


وهكذا فرضت الرواية احترامها على الدراسات الأدبية الحديثة، ولم يعد بإمكان النقد أن يتجاهلها، وإذا كان النقد التقليدي قد نظر لها نظرة قاصرة فوضعها ضمن فنون النثر الأدبية، فقد غفل عن عدة حقائق تجعل من تصنيفه هذا خطأ منطقياً وتاريخياً، وإذا كان النثر الفني فرعاً من فروع الشعر، أو أنه متأثر بالشعر، فلا يمكن أن تكون الرواية كذلك، يتفق الباحثون أن الشعر كان أسبق للظهور من النثر، وهم يعنون النثر الفني بطبيعة الحال، أي تلك الفنون النثرية التي نصنفها ضمن الأنواع الأدبية، وإلا فالنثر الذي يعني الكلام العادي غير الأدبي أسبق في الظهور من الشعر، لكن الفنون النثرية الأدبية هي المقصود في حديث النقاد ومؤرخي الأدب، وذلك لأنهم نظروا لهذه الأنواع الأدبية من النثر فوجدوها متأثرة بالشعر تحمل من سماته الكثير (الإيقاع، البديع، السجع، المجاز، والتكثيف)، فكان منطقياً أن يأتي الشعر سابقاً لأنه المؤثِّر، وليس من المنطق أن يسبق المتأثِّرُ المؤثِّرَ، بل إن عامل التأثير يعني أن الشعر نضج واستقامت فنونه، وتأثر به الكلام النثري فأنتج فنوناً نثرية تحاكيه.

وفقاً لهذا الرأي، فإن المنطق يقول: إن كان السرد نثراً فإنه من فنون النثر وقد ظهر بعد الشعر، لكن هذا كلام غير دقيق، لا يسنده المنطق ولا التاريخ؛ فالرواية مثلاً (ولنقل الرواية الواقعية)، لا تحمل من سمات الشعر شيئاً، ولا تبدو متأثرة به، أعني أن بنيتها الرئيسة غير متأثرة بالشعر وفنونه، بل إنها تكتسب جمالها وأدبيتها من الحكاية التي تحكيها، لا من السمات التي استعارتها من الشعر، كما تفعل الفنون النثرية المتأثرة بالشعر، إن جوهر التجربة الأدبية في هذه الفنون ينبع من عناصر تنتمي لعالم الشعر كما قلنا، لكن جوهر التجربة الأدبية في الرواية ينبع من الحكاية، والحكاية وحدها، من هنا تكون القصة الواقعية تصويراً مباشراً لحدث واقعي دون إمعان في الخيال والصور ودون مطاردة للغة المجازية، ومع ذلك نعدها اليوم فناً أدبياً لا غبار عليه.

والأمر أن الرواية هكذا لا يمكن أن نصنفها ضمن أنواع النثر الفني لأنها تفترق عنه في جوهر التجربة الأدبية، وهذا السبب المنطقي يقود للسؤال عن النسب التاريخي الذي تنتمي له فنون القصة الحديثة، ويبدو أن الإجابة الأقرب في أن هذه الفنون تنتمي أكثر للحكايات الشعبية التي وجدت منذ وجود الإنسان، وإذا كان الشعر مرتبطاً بغريزة حب الإيقاع والرقص كما قيل، فإن السرد كان دوماً استجابة لغريزة حب الحكي (قول القصص وسماعها) لدى الإنسان، هذا يعني أن السرد وجد منذ البداية (لارتباطه بسد حاجة غريزية)، مثله مثل الشعر الذي يبدو أنه وجد من البداية كذلك، (كان الرجل الأول يقضي يومه في مغامرات البقاء ثم يعود لأسرته يغني لهم شعراً ويحكي له حكايات شهدها أو أبدعها)، ولكنْ لأن المؤسسة الأدبية لم تنظر لهذه الحكايات الشعبية نظرة جادة (على الرغم من وجود الخرافات والأساطير والحكايات الشعبية والحكواتيين في كل عصر وثقافة)، فقد ظل هذا الكم الهائل من التراث الشفهي مهملاً حتى حانت ساعة الرواية فانصاع النقاد وخضع النقد.

أقول قولي هذا.. (أجناس الأدب الرئيسة ثلاثة: سرد وشعر ونثر)، وأستغفر الله لكل من عاند واستكبر.. إنه غفور تواب رحيم.

أخبار ذات صلة

اللغة الشاعرة
مؤتمر الأردن.. دعماً لوحدة سوريا ومستقبلها
الجهات التنظيمية.. تدفع عجلة التنمية
الاستثمار في مدارس الحي
;
معرض جدة للكتاب.. حلَّة جديدة
«حركية الحرمين».. إخلاص وبرامج نوعية
دموع النهرين...!!
الجمال الهائل في #سياحة_حائل
;
عقيقة الكامخ في يوم العربيَّة
قُول المغربيَّة بعشرةٍ..!!
في رحاب اليوم العالمي للغة العربية
متحف للمهندس
;
وقت الضيافة من حق الضيوف!!
السرد بالتزييف.. باطل
عنف الأمثال وقناع الجَمال: قلق النقد ويقظة الناقد
مزايا مترو الرياض