كتاب
البنيوي سعيد السريحي وفكر ما بعد البنيوية
تاريخ النشر: 25 نوفمبر 2021 00:14 KSA
يمكن القول إن مظاهر مرحلة ما بعد البنيوية بدأت تكشف عن نفسها منذ وقت مبكر في تجربة سعيد السريحي النقدية، ابتداءً من تمثّله العميق لمفهوم دريدا المركزي «deconstruction- التقويض/ التفكيك». ينطلق السريحي من وعي ناضج بالبعد الفلسفي للمرحلة ذاتها، باعتبارها مرحلة منطلقة من البنيوية في الأساس، لكنها ترفض الاستسلام لسيطرتها، والتسليم بسلطانها.. يتبدى هذا واضحاً من عدة زوايا، لعل أولاها تعامل السريحي مع مفهوم (التفكيك) انطلاقاً من موقف صاحبه، الذي تكشف عنه رسالة جاك دريدا لصديقه الياباني البروفيسور أزوتسو، حين استشاره الأخير حول إيجاد ترجمة مقترحة للمصطلح في اللغة اليابانية.
إن انطلاق السريحي من هذا الموقف يعطي صورة واضحة عن فهمه المتطور لواحد من أكثر المفاهيم تعقيداً، وأشدها تأثيراً في العصر الحديث.
ولقد عبرت في أكثر من مناسبة عن أهمية المفهوم ومركزيته ليس في الفكر الحديث وحسب، بل -وقبل ذلك- في فهم طبيعة التطور الذي كانت تسير فيه -ونحوه- الحضارة البشرية منذ زمن دريدا بقوة واندفاع.. إن التفكيك يلامس -أولاً وقبل كل شيء- حالة التهشّم والتشظي الذي وصلت إليه الحياة البشرية في ظل التطورات الاقتصادية والسياسية والعلمية والتكنولوجية.
لقد قيل الكثير حول جوهر التقويض الذي ينطوي عليه مفهوم دريدا، وهو جوهر لا يمكن إنكاره بطبيعة الحال، لكنْ من الضروري -في رأيي- ألا يُقرأ هذا البعد مفصولاً عن سياقه الفكري الذي يجعل منه استباقاً وفتحاً معرفياً مهماً، يبرر رواجه العظيم وتأثيره في الحركات الفكرية والآيديولوجية المختلفة بعد ذلك.. من هنا يرفض التفكيك أي سلطة ترهنه في إطار محدود، ومركزية مصطلحية معينة.. فهو ينطلق أساساً من هدم هذه المركزية الميتافيزيقية، وتحديد التفكيك بمفهوم ما، يعني ارتهان المصطلح لتمركز معين، وهو ما يناقض المشروع الفكري الذي يقف خلف المفهوم.
يعيد دريدا مفهوم (التفكيك) للغة، وتصبح بهذا مجرد كلمة شأنها شأن أي كلمة «تتسم بالمراوغة والقلق والمخادعة وتعدد المعنى والتباس الدلالة».. وبذلك يكون «التفكيك في جوهره حركة لنزع نواة التمركز المنطقي وتدميره»، وتكون عملية «تحويله إلى مصطلح يمكن التواطؤ عليه تعني العودة مرة أخرى إلى هذا التمركز».. يورد السريحي نقاشه هذا في سياق ورقة تتحدث عن (سلطان المصطلح وسلطة المعرفة)، حيث يكون للمصطلح في النظام اللغوي موقع «شبيه بموقع السلطة في المجتمع»، موقعٌ يكتسب من خلاله ما يدعوه (سلطة المعرفة)، التي يتموضع المصطلح في رأس بنائها الهرمي حين يسكّه المتخصصون، ويتداوله الدارسون بعد ذلك.. تعبّر خاتمة الورقة عن خطورة مسعاها، حينما تدعو «الثقافة الجديدة التي تترامى إلى التحرر من كل فكر سلطوي» إلى «إعلان الثورة على مصطلحاتها، لأنها بذلك تعلن حريتها». ترى الورقة أن نزع سلطة المصطلح يمثّل الخطوة الأولى في الثورة المعرفية «التي تتقدم مقوّضة كل أساسٍ تمّ التسليم به والركون إليه».
وكما فعل مع سلطة المصطلح، يعمد السريحي على تقويض سلطة المؤلف، حين سئل عن رأيه في تجربته الشعرية الخاصة، فنفى وجود ذلك لإيمانه: «أننا جميعاً لا نملك تجارب خاصة، وما نتوهم أنه تجربتي أو تجربتك أو تجربته إنما هو تقاطع لتجاربنا جميعاً نحن شهود هذا العصر وورثة السالفين». يتمثل هذا الرأي -كما هو ظاهر- بعداً عميقاً من أبعاد التناص في مرحلته ما بعد البنيوية، حيث يصبح النص «جيولوجيا كتابات» كما يذهب رولان بارت: «فليس للتداخل النصي من قانون غير آخر غير لانهائية استعاداته وتواتره». إن النص نتاجُ «استشهادات من غير تقويس»، أو «فسيفساء من نصوص أخرى... نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة»، كما يرى ميشيل ريفيتير.
إن انطلاق السريحي من هذا الموقف يعطي صورة واضحة عن فهمه المتطور لواحد من أكثر المفاهيم تعقيداً، وأشدها تأثيراً في العصر الحديث.
ولقد عبرت في أكثر من مناسبة عن أهمية المفهوم ومركزيته ليس في الفكر الحديث وحسب، بل -وقبل ذلك- في فهم طبيعة التطور الذي كانت تسير فيه -ونحوه- الحضارة البشرية منذ زمن دريدا بقوة واندفاع.. إن التفكيك يلامس -أولاً وقبل كل شيء- حالة التهشّم والتشظي الذي وصلت إليه الحياة البشرية في ظل التطورات الاقتصادية والسياسية والعلمية والتكنولوجية.
لقد قيل الكثير حول جوهر التقويض الذي ينطوي عليه مفهوم دريدا، وهو جوهر لا يمكن إنكاره بطبيعة الحال، لكنْ من الضروري -في رأيي- ألا يُقرأ هذا البعد مفصولاً عن سياقه الفكري الذي يجعل منه استباقاً وفتحاً معرفياً مهماً، يبرر رواجه العظيم وتأثيره في الحركات الفكرية والآيديولوجية المختلفة بعد ذلك.. من هنا يرفض التفكيك أي سلطة ترهنه في إطار محدود، ومركزية مصطلحية معينة.. فهو ينطلق أساساً من هدم هذه المركزية الميتافيزيقية، وتحديد التفكيك بمفهوم ما، يعني ارتهان المصطلح لتمركز معين، وهو ما يناقض المشروع الفكري الذي يقف خلف المفهوم.
يعيد دريدا مفهوم (التفكيك) للغة، وتصبح بهذا مجرد كلمة شأنها شأن أي كلمة «تتسم بالمراوغة والقلق والمخادعة وتعدد المعنى والتباس الدلالة».. وبذلك يكون «التفكيك في جوهره حركة لنزع نواة التمركز المنطقي وتدميره»، وتكون عملية «تحويله إلى مصطلح يمكن التواطؤ عليه تعني العودة مرة أخرى إلى هذا التمركز».. يورد السريحي نقاشه هذا في سياق ورقة تتحدث عن (سلطان المصطلح وسلطة المعرفة)، حيث يكون للمصطلح في النظام اللغوي موقع «شبيه بموقع السلطة في المجتمع»، موقعٌ يكتسب من خلاله ما يدعوه (سلطة المعرفة)، التي يتموضع المصطلح في رأس بنائها الهرمي حين يسكّه المتخصصون، ويتداوله الدارسون بعد ذلك.. تعبّر خاتمة الورقة عن خطورة مسعاها، حينما تدعو «الثقافة الجديدة التي تترامى إلى التحرر من كل فكر سلطوي» إلى «إعلان الثورة على مصطلحاتها، لأنها بذلك تعلن حريتها». ترى الورقة أن نزع سلطة المصطلح يمثّل الخطوة الأولى في الثورة المعرفية «التي تتقدم مقوّضة كل أساسٍ تمّ التسليم به والركون إليه».
وكما فعل مع سلطة المصطلح، يعمد السريحي على تقويض سلطة المؤلف، حين سئل عن رأيه في تجربته الشعرية الخاصة، فنفى وجود ذلك لإيمانه: «أننا جميعاً لا نملك تجارب خاصة، وما نتوهم أنه تجربتي أو تجربتك أو تجربته إنما هو تقاطع لتجاربنا جميعاً نحن شهود هذا العصر وورثة السالفين». يتمثل هذا الرأي -كما هو ظاهر- بعداً عميقاً من أبعاد التناص في مرحلته ما بعد البنيوية، حيث يصبح النص «جيولوجيا كتابات» كما يذهب رولان بارت: «فليس للتداخل النصي من قانون غير آخر غير لانهائية استعاداته وتواتره». إن النص نتاجُ «استشهادات من غير تقويس»، أو «فسيفساء من نصوص أخرى... نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة»، كما يرى ميشيل ريفيتير.