كتاب
عن صديق إنجليزي يحتضر.. ويُدعى بيتر..!!
تاريخ النشر: 16 مارس 2022 22:46 KSA
لا أعلم لماذا أكتب هذا المقال؟! لا أعلم أيضاً كيف يكتب مقال كهذا؟! سأترك لكم أن تستخلصوا العبرة، إن كان هناك من عبرة، وأن تلتقطوا الفكرة، إن سنحت أي فكرة، أنا سأكتب.. هكذا فقط؛ من حافلة على طريق خضراء ممتدة، المكان مدينة صغيرة شمال لندن، والوجهة شمال إنجلترا، ليدز تحديداً.. بالأمس؛ أي قبل أن أكتب هذا المقال بيوم، اتصلتُ بصديقي «بيتر»، لأقول له إني قادم لرؤيته.. هو مريض، يعيش آخر أيامه على ما يبدو.. وأريد أن أراه قبل أن..!!
حين حطّ مرض الموت على أبي؛ كنت جواره لأسابيع.. وذات صباح، طردني من غرفته.. «إلى أهلك في بريطانيا»، قال، «ماذا تفعل كل هذا الوقت بجواري». حاولت التمنّع، لكنه أصرّ.. وطردني، قال: أريد أن أراك دكتوراً قبل أن...!! أنا الآن بروفيسور، لكنه لم...!!
لا أعلم إن كنت سأصل لأرى «بيتر».. حين حادثته: قال لي بنَفَسِ عدّاءٍ تجاوزَ خط النهاية للتو: «الزيارة ممنوعة يا عادل، لا أستطيع أن أراك، أنا في المستشفى، والأطباء يعتقدون أن لدي أياماً معدودة، ربما أسابيع، وربما ساعات، تلتمع أعينهم حين يقولون: ساعات، لا أعلم لماذا! عشت قرابة ثمانين عاماً يا عادل، لكن نظراتهم هذه جديدة عليَّ، لم أختبرها أبداً، لو كان للإنسان أن يتخبر الموت قبل أن يخوضه!! هم يمنعون الزيارة، ولا أعلم إن أردتك أن تراني هكذا، البردُ شرسٌ في الخارج، الأشجار جرداء، منكسرة، تُراقص الألمَ... ويراقصُها.
عرفتُ بيتر منذ نزولي في ليدز طالباً مكتظَّ الأحلام، لقاؤنا الأول كان غريباً، أجفَّ من ورقة خريفية سقطت من غصن يتيم، حين عدتُ لغرفتي ليلتها، ضحكت، قلت لنفسي: مَنِ المحظوظُ الذي تتسنى له فرصة لقاء رجل إنجليزيٍ تقليدي هذه الأيام؟! كلماتٌ قليلة، لغة هادئة ومباشرة (تشبه لغة الفلاسفة الإنجليز في القرن الثامن عشر، لم أقابل أحداً منهم بالطبع، لكني قابلت بيتر)، كان بخيلاً.. هكذا شعرت، وضحكت مرة أخرى: proper Englishman!! إنجليزي حقيقي كان بيتر، (لماذا استخدمتُ الفعل كان!؟)، ينتمي لجيل لم يعد متوفراً، الحديث مقتضب، والوقت محسوب بدقة، لا ابتسامَ دون حاجة، (أولُ ابتسامة لاحظتها كانت في لقائنا الرابع ربما)، دقيقُ التفاصيل، والمواعيد، والملامح، ساعدني في عملي في البداية، كان يقرأ ما أكتب، ويصححه، ويناقشني.
لم يقبل أن يعمل معي حتى عرف خطتي كاملة، في اللقاء الأول: سجل -مثل مشرف علمي حريص- كل التفاصيل التي يحتاج معرفتها حول موضوعي، وخطتي، وطريقة تفكيري، قال لي: سأكتب لك إن كنت موافقاً على مساعدتك. ضحكتُ في داخلي. كان لقائي به محورياً في عملي، بل في طريقة تفكيري كلها. أدين له بفضلٍ كبير.. وسأظل، (كتبتُ له إهداء خاصاً في مقدمة رسالة الدكتوراه، حصلت على درجة الامتياز البحثي عن هذه الرسالة بفضل الله.. ثم بيتر).
مع الوقت أصبحنا صديقين؛ لم يعد العمل ما يجمعنا، جمعتنا القراءة، والمسرحيات، والأمسيات الشعرية، والحفلات الموسيقية، والمعارض التشكيلية المختلفة، جمعتنا الأفلام كذلك، أصبح يتابع تشيلسي، من أجلي فقط، حضرنا أمسية مرة لعدنان الصائغ العراقي المغترب في لندن، كانت هناك ترجمة بالطبع، وأعجبه كثيراً، لكنه تنبه إلى أن «جيمَ» العراقي تختلف عن جيمي! التقاطة عجيبة.
الآن في الحافلة؛ تنهشُ جيبي ورقةٌ صغيرة تضم ترجمة لنص شعري كتبتُه عام 2010 تقريباً، تأخرتُ كثيراً للأسف، «هل تقرأ؟» سألته في اتصالي يوم أمس. «لا.. لم أعد أرى، العمر.. والسرطان ربما»، ثم أتبعَها بعبارة اقتلعتني وعاثت بي بعيداً، لا أستطيع أن أكتبها للأسف، وأنا أغادر بريطانيا، كتب لي قصيدة جميلة وعميقة، «لعلك تترجمها يوماً ما إلى العربية»، لم أفعل بعد.
عاش بيتر حياة هادئة ملتزمة؛ طفولته كان تنفض عنها جروح الحرب العالمية الثانية، لن تسنح له الفرصة لأن يشهد الثالثة، محظوظ! أحبَّ الفن صغيراً، وعمل في الجامعة قليلاً، لم يتزوج، كان الزواج بالنسبة له التزاماً لا يستطيعه، فقضى بقية العمر يقرأ، ويصادف أصدقاء من هنا وهناك، كنت أنا منهم.
أنا الآن في الحافلة، أفكّر في صديقي بيتر، كان بيتر صديقاً صدوقاً ونادراً، (ها أنا أستخدم الفعل «كان» مرةً أخرى)، نعم لم يكن لديه جوال، ولا جهاز كمبيوتر، ولا أي تقنية حديثة غير هاتف المنزل، لكنه لم يفوّت مناسبةً دون أن يكتب لي أو يتصل بي، وكنت أزوره في كل مرة أحضر لبريطانيا، كان موعدي الثابت هنا، هل أنا في طريقي للموعد الأخير.. من يكون له شهية للأكل في «العشاء الأخير»!؟ ديفنشي كان عبقرياً، التقطَ المعنى، من لحظة اللامعنى.
البرد سجين في الخارج.. لا مطر.. مجردُ ماء مالحٍ في العين، وفي الجيب.. قصيدة مترجمة إلى الإنجليزية، أقول في مطلعها المتحشرج: «بريءٌ.. وما أعظمَ الذنبَ حين تكون بريئاً..!!»، ليدز على بُعد أميال.. تقابلني شاحبةً هذه المرة، أول مرة تقابلني هذه الصديقة هكذا.. ولا أعلم إن كنت سأصل قبل أن...!!
حين حطّ مرض الموت على أبي؛ كنت جواره لأسابيع.. وذات صباح، طردني من غرفته.. «إلى أهلك في بريطانيا»، قال، «ماذا تفعل كل هذا الوقت بجواري». حاولت التمنّع، لكنه أصرّ.. وطردني، قال: أريد أن أراك دكتوراً قبل أن...!! أنا الآن بروفيسور، لكنه لم...!!
لا أعلم إن كنت سأصل لأرى «بيتر».. حين حادثته: قال لي بنَفَسِ عدّاءٍ تجاوزَ خط النهاية للتو: «الزيارة ممنوعة يا عادل، لا أستطيع أن أراك، أنا في المستشفى، والأطباء يعتقدون أن لدي أياماً معدودة، ربما أسابيع، وربما ساعات، تلتمع أعينهم حين يقولون: ساعات، لا أعلم لماذا! عشت قرابة ثمانين عاماً يا عادل، لكن نظراتهم هذه جديدة عليَّ، لم أختبرها أبداً، لو كان للإنسان أن يتخبر الموت قبل أن يخوضه!! هم يمنعون الزيارة، ولا أعلم إن أردتك أن تراني هكذا، البردُ شرسٌ في الخارج، الأشجار جرداء، منكسرة، تُراقص الألمَ... ويراقصُها.
عرفتُ بيتر منذ نزولي في ليدز طالباً مكتظَّ الأحلام، لقاؤنا الأول كان غريباً، أجفَّ من ورقة خريفية سقطت من غصن يتيم، حين عدتُ لغرفتي ليلتها، ضحكت، قلت لنفسي: مَنِ المحظوظُ الذي تتسنى له فرصة لقاء رجل إنجليزيٍ تقليدي هذه الأيام؟! كلماتٌ قليلة، لغة هادئة ومباشرة (تشبه لغة الفلاسفة الإنجليز في القرن الثامن عشر، لم أقابل أحداً منهم بالطبع، لكني قابلت بيتر)، كان بخيلاً.. هكذا شعرت، وضحكت مرة أخرى: proper Englishman!! إنجليزي حقيقي كان بيتر، (لماذا استخدمتُ الفعل كان!؟)، ينتمي لجيل لم يعد متوفراً، الحديث مقتضب، والوقت محسوب بدقة، لا ابتسامَ دون حاجة، (أولُ ابتسامة لاحظتها كانت في لقائنا الرابع ربما)، دقيقُ التفاصيل، والمواعيد، والملامح، ساعدني في عملي في البداية، كان يقرأ ما أكتب، ويصححه، ويناقشني.
لم يقبل أن يعمل معي حتى عرف خطتي كاملة، في اللقاء الأول: سجل -مثل مشرف علمي حريص- كل التفاصيل التي يحتاج معرفتها حول موضوعي، وخطتي، وطريقة تفكيري، قال لي: سأكتب لك إن كنت موافقاً على مساعدتك. ضحكتُ في داخلي. كان لقائي به محورياً في عملي، بل في طريقة تفكيري كلها. أدين له بفضلٍ كبير.. وسأظل، (كتبتُ له إهداء خاصاً في مقدمة رسالة الدكتوراه، حصلت على درجة الامتياز البحثي عن هذه الرسالة بفضل الله.. ثم بيتر).
مع الوقت أصبحنا صديقين؛ لم يعد العمل ما يجمعنا، جمعتنا القراءة، والمسرحيات، والأمسيات الشعرية، والحفلات الموسيقية، والمعارض التشكيلية المختلفة، جمعتنا الأفلام كذلك، أصبح يتابع تشيلسي، من أجلي فقط، حضرنا أمسية مرة لعدنان الصائغ العراقي المغترب في لندن، كانت هناك ترجمة بالطبع، وأعجبه كثيراً، لكنه تنبه إلى أن «جيمَ» العراقي تختلف عن جيمي! التقاطة عجيبة.
الآن في الحافلة؛ تنهشُ جيبي ورقةٌ صغيرة تضم ترجمة لنص شعري كتبتُه عام 2010 تقريباً، تأخرتُ كثيراً للأسف، «هل تقرأ؟» سألته في اتصالي يوم أمس. «لا.. لم أعد أرى، العمر.. والسرطان ربما»، ثم أتبعَها بعبارة اقتلعتني وعاثت بي بعيداً، لا أستطيع أن أكتبها للأسف، وأنا أغادر بريطانيا، كتب لي قصيدة جميلة وعميقة، «لعلك تترجمها يوماً ما إلى العربية»، لم أفعل بعد.
عاش بيتر حياة هادئة ملتزمة؛ طفولته كان تنفض عنها جروح الحرب العالمية الثانية، لن تسنح له الفرصة لأن يشهد الثالثة، محظوظ! أحبَّ الفن صغيراً، وعمل في الجامعة قليلاً، لم يتزوج، كان الزواج بالنسبة له التزاماً لا يستطيعه، فقضى بقية العمر يقرأ، ويصادف أصدقاء من هنا وهناك، كنت أنا منهم.
أنا الآن في الحافلة، أفكّر في صديقي بيتر، كان بيتر صديقاً صدوقاً ونادراً، (ها أنا أستخدم الفعل «كان» مرةً أخرى)، نعم لم يكن لديه جوال، ولا جهاز كمبيوتر، ولا أي تقنية حديثة غير هاتف المنزل، لكنه لم يفوّت مناسبةً دون أن يكتب لي أو يتصل بي، وكنت أزوره في كل مرة أحضر لبريطانيا، كان موعدي الثابت هنا، هل أنا في طريقي للموعد الأخير.. من يكون له شهية للأكل في «العشاء الأخير»!؟ ديفنشي كان عبقرياً، التقطَ المعنى، من لحظة اللامعنى.
البرد سجين في الخارج.. لا مطر.. مجردُ ماء مالحٍ في العين، وفي الجيب.. قصيدة مترجمة إلى الإنجليزية، أقول في مطلعها المتحشرج: «بريءٌ.. وما أعظمَ الذنبَ حين تكون بريئاً..!!»، ليدز على بُعد أميال.. تقابلني شاحبةً هذه المرة، أول مرة تقابلني هذه الصديقة هكذا.. ولا أعلم إن كنت سأصل قبل أن...!!