كتاب
نصف جدة المظلم: ذكريات.. وأسئلة!!
تاريخ النشر: 09 نوفمبر 2022 22:24 KSA
على كبري الميناء، ذلك المشروع الممتد وريداً في جنوب جدة النابض بالحياة والتاريخ، وجدت نفسي.. كان الوريدُ خافتَ الطلة، وكان الجنوب مظلماً لا تكاد تشعر فيه بأي حياة.. هذا هو الجزء العظيم من عروس البحر الذي أضحى بعد مشروع الهدم والتصحيح أثراً بعد عين.. مدينة كاملة ذابت في الصمت في غضون أشهر معدودة، ذهب معها عمر من الذكريات والحكايا المثخنة بالأمل والخيبة.
جذوري مغروسة في هذا الجنوب منذ الطفولة، كان أبي رحمه الله جنوبي الهوى والعقيدة، لم يخرج من أحياء جنوب جدة بعد أن استوطنها قادماً من جنوب المملكة.. ومعه عرفت دهاليز التاريخ المنسي في أحياء جدة، تلك التي تاخمت البلد، وانتثرت حوله مثل عقد عتيق.. نعم، لم تكن تلك الأحياء رثة على الدوام، بل كانت تشع بالحياة والثقافة والأمل.. كانت تسكنها مشارب من ثقافات متنوعة؛ ثقافات محلية لقادمين من مناطق المملكة المختلفة، وأخرى خارجية من بلاد عربية وغير عربية.. هذا المزيج المتنوع كان مزية لهذا الجنوب قبل أن يجور الزمان عليه، وتدركه يد النسيان.. كيف أصبح هكذا؟ ولماذا؟ أسئلة لابد من طرحها، قبل المضي قدماً.
غليل.. كان المكان الأقرب لقلبي.. نعم، (غُليل) بضم الغين، لا شيء غير هذه الغين المضمومة يشفي غليل الشوق؛ مررت قبل شهور على عجل، لعلي ألحق بقايا الحكايات قبل أن تغدو حطاماً، وكان مشهداً حزيناً على الأطلال.. الناس، قدامى الجيران يجمعون ما تبقى من أثاث العمر، والنوافذُ فارغة من الوجوه.. في تلك الأزقة تشكلت طفولتي مثل قطٍّ بائس الرفقة.. وفيها تعرفت على البرجون، وسبع حجر، وطاق طاق طاقية.. في غليل تعرفت على كرة القدم الحقيقية أيضاً، أعتقد أن الأمريكان سرقوا قوانين لعبتهم من غليل والنزلة، لا من الركبي.. بالنسبة لي تبدو كرة القدم الأمريكية أشبه ما يكون بتحديات الكرة في جنوب جدة.. حربٌ أهلية حقيقية، لا تحكيم ينفع معها، ولا أمم متحدة.. لعبنا مرة في النزلة، في ملعب الصخرة الشهير، حوش قديم، لجدرانه فجوات غريبة المصدر، مثل التي نراها في بيوت أوكرانيا... وسوريا! المهم ليس الحوش، بل الواقفون على جدرانه، وما في أيديهم من عصي وسكاكين وسواطير، مشهد مرعب، من يستطيع أن يمارس هوايته في أجواء مثل هذه.. لم تنجُ المباراة طبعاً، لكننا -بقدرة قادر- نجونا!
قبل أن أغادر غليل سرقت لحظة لمسجد الفاروق؛ مسجد أسطوري الطابع والسيرة.. كان المطوّعُ -إمامه- لا يقلُّ أسطورية عن مسجده؛ رجلٌ خارق العزيمة والقلب، عاش أكثر من مئة عام، قضى معظمها حول ذلك المسجد.. كان زوجاً لعمتي، لكن صورته تحضر كلما كان يرد ذكر عمر ابن الخطاب، ولا تزال.. المطوّع كان فاروقَ الحارة، وفارق الحياة مؤخرًا.
تعامُل خططِ الإزالة مع المساجد كان لمسةً لطيفة؛ تُزال كل المنازل والمباني، وتبقى المساجد بمآذنها شامخة بين الأنقاض.. رسالة جميلة كانت ترسلها المآذن وهي تقف صقيلة مثل سبابة مسلم خاشع.. في الظلام يبدو المشهد موحشاً بصراحة، لكن النهارَ يجلب معه الذكريات والحنين.. السبيل، حيٌّ عريق آخر ذهب، كانت الكرة أيضاً تأخذنا إليه باستمرار، وأم عمر كذلك.. كانت أم عمر تبيع (مقلية) لا تجدها في أشهر مطاعم جدة، ولن تجدها.. لأن أم عمر، وولدها عمر اختارا ركناً بين منزلين مواجهاً لكوبري الميناء.. حاسوبي كتبها هكذا: (مواجعاً) لكوبري الميناء! هل تشعر الأشياء بألمنا! هل تبكينا الأماكن المهجورة كما نبكيها!
قويزة والروابي والثغر والجامعة والمنتزهات وأحياء أخرى شاسعة الذكريات تغادر بصمت، الغبار وحده يعلن انشقاقه للقادمين من خط الحرمين.. أعترف أن الوضع في هذه الأحياء التي أزيلت لم يكن يحتمل الانتظار أكثر، كان لابد من حل جذري لإصلاح الوضع والنظر للأمام، لكن لابد أن نتذكر دوماً أن هذه الأماكن (العشوائية) لم تفعل بنفسها ذلك.. الإهمال كان من فعل.. وليتنا نعتبر!
جذوري مغروسة في هذا الجنوب منذ الطفولة، كان أبي رحمه الله جنوبي الهوى والعقيدة، لم يخرج من أحياء جنوب جدة بعد أن استوطنها قادماً من جنوب المملكة.. ومعه عرفت دهاليز التاريخ المنسي في أحياء جدة، تلك التي تاخمت البلد، وانتثرت حوله مثل عقد عتيق.. نعم، لم تكن تلك الأحياء رثة على الدوام، بل كانت تشع بالحياة والثقافة والأمل.. كانت تسكنها مشارب من ثقافات متنوعة؛ ثقافات محلية لقادمين من مناطق المملكة المختلفة، وأخرى خارجية من بلاد عربية وغير عربية.. هذا المزيج المتنوع كان مزية لهذا الجنوب قبل أن يجور الزمان عليه، وتدركه يد النسيان.. كيف أصبح هكذا؟ ولماذا؟ أسئلة لابد من طرحها، قبل المضي قدماً.
غليل.. كان المكان الأقرب لقلبي.. نعم، (غُليل) بضم الغين، لا شيء غير هذه الغين المضمومة يشفي غليل الشوق؛ مررت قبل شهور على عجل، لعلي ألحق بقايا الحكايات قبل أن تغدو حطاماً، وكان مشهداً حزيناً على الأطلال.. الناس، قدامى الجيران يجمعون ما تبقى من أثاث العمر، والنوافذُ فارغة من الوجوه.. في تلك الأزقة تشكلت طفولتي مثل قطٍّ بائس الرفقة.. وفيها تعرفت على البرجون، وسبع حجر، وطاق طاق طاقية.. في غليل تعرفت على كرة القدم الحقيقية أيضاً، أعتقد أن الأمريكان سرقوا قوانين لعبتهم من غليل والنزلة، لا من الركبي.. بالنسبة لي تبدو كرة القدم الأمريكية أشبه ما يكون بتحديات الكرة في جنوب جدة.. حربٌ أهلية حقيقية، لا تحكيم ينفع معها، ولا أمم متحدة.. لعبنا مرة في النزلة، في ملعب الصخرة الشهير، حوش قديم، لجدرانه فجوات غريبة المصدر، مثل التي نراها في بيوت أوكرانيا... وسوريا! المهم ليس الحوش، بل الواقفون على جدرانه، وما في أيديهم من عصي وسكاكين وسواطير، مشهد مرعب، من يستطيع أن يمارس هوايته في أجواء مثل هذه.. لم تنجُ المباراة طبعاً، لكننا -بقدرة قادر- نجونا!
قبل أن أغادر غليل سرقت لحظة لمسجد الفاروق؛ مسجد أسطوري الطابع والسيرة.. كان المطوّعُ -إمامه- لا يقلُّ أسطورية عن مسجده؛ رجلٌ خارق العزيمة والقلب، عاش أكثر من مئة عام، قضى معظمها حول ذلك المسجد.. كان زوجاً لعمتي، لكن صورته تحضر كلما كان يرد ذكر عمر ابن الخطاب، ولا تزال.. المطوّع كان فاروقَ الحارة، وفارق الحياة مؤخرًا.
تعامُل خططِ الإزالة مع المساجد كان لمسةً لطيفة؛ تُزال كل المنازل والمباني، وتبقى المساجد بمآذنها شامخة بين الأنقاض.. رسالة جميلة كانت ترسلها المآذن وهي تقف صقيلة مثل سبابة مسلم خاشع.. في الظلام يبدو المشهد موحشاً بصراحة، لكن النهارَ يجلب معه الذكريات والحنين.. السبيل، حيٌّ عريق آخر ذهب، كانت الكرة أيضاً تأخذنا إليه باستمرار، وأم عمر كذلك.. كانت أم عمر تبيع (مقلية) لا تجدها في أشهر مطاعم جدة، ولن تجدها.. لأن أم عمر، وولدها عمر اختارا ركناً بين منزلين مواجهاً لكوبري الميناء.. حاسوبي كتبها هكذا: (مواجعاً) لكوبري الميناء! هل تشعر الأشياء بألمنا! هل تبكينا الأماكن المهجورة كما نبكيها!
قويزة والروابي والثغر والجامعة والمنتزهات وأحياء أخرى شاسعة الذكريات تغادر بصمت، الغبار وحده يعلن انشقاقه للقادمين من خط الحرمين.. أعترف أن الوضع في هذه الأحياء التي أزيلت لم يكن يحتمل الانتظار أكثر، كان لابد من حل جذري لإصلاح الوضع والنظر للأمام، لكن لابد أن نتذكر دوماً أن هذه الأماكن (العشوائية) لم تفعل بنفسها ذلك.. الإهمال كان من فعل.. وليتنا نعتبر!