جهود الإمام محمد بن سعود في تأسيس الدولة السعودية وبناء مشروع وحدوي ونهضوي

لم يكن العام 1139هـ عامًا عاديًا في تاريخ المملكة العربية السعودية، إنه نقطة التحول الكبرى والمفصلية في تاريخ الدولة السعودية الذي انطلق من الدرعية وعرف تاريخيا بتأسيس المملكة العربية السعودية أو ما كان يعرف في ذلك الوقت بإمارة الدرعية ثم الدولة السعودية الأولى بعد تأسيسها على يد المغفور له الإمام محمد بن سعود -رحمه الله-.

وسنتتبع هنا رصدًا تاريخيًا لجهود الإمام محمد بن سعود في تأسيس الدولة السعودية من خلال ما سيطرحه المؤرخون والمختصون في هذا المجال.

المجهود الحربي والسياسي والإداري للمؤسس

الأستاذ الدكتور عبدالرحمن سعد العرابي أستاذ التاريخ الحديث والعلاقات الدولية بجامعة الملك عبدالعزيز يتطرق ببعض التفصيل عن المجهودات التي بذلها الإمام محمد بن سعود لتأسيس الدولة السعودية فيقول: امتد حكم الإمام محمد بن سعود للدرعية أربعين عاماً من 1139هـ حتى وفاته في عام 1179هـ شهدت فيه الدرعية تطورات وأحداثاً مفصلية نقلتها من صيغة المدينة-الدولة إلى الدولة صاحبة النفوذ الأكبر في كامل شبه الجزيرة العربية بسبب السياسات الداخلية والخارجية التي لتخذها الإمام محمد طوال فترة حكمه، حيث بدأ الإمام محمد بن سعود مشروعه التأسيسي الوحدوي مستهدفًا إقامة دولة عربية خالصة أساسها الإسلام المعتدل تعيد المكانة لشبه الجزيرة العربية موطن العرب ومهد الإسلام بعيدًا عن الولاءات والتبعية لنفوذ العناصر غير العربية خاصة أن الدولة الأكبر آنذاك والمسيطرة على معظم الأقاليم والبلاد العربية كانت الدولة العثمانية، كما سعى الإمام محمد بن سعود إلى جعل دولته ذات سيادة وحرة بعيدة عن ولاءات وتبعية لأي من القوي الإقليمية في شبه الجزيرة العربية وأن تكون عاصمته الدرعية ذات قرار سيادي نابع من مصالحها الذاتية وبما يحقق ازدهار شعبها.

سياسات المؤسس الداخلية

ويواصل الدكتور عبدالرحمن العرابي عن مجهودات الإمام في التأسيس فيؤكد أنه في الشأن الداخلي اتبع الإمام محمد بن سعود سياسات تتراوح ما بين السلمية والحربية لتأمين الاستقرار والأمن داخل الدرعية وما حولها، كانت تلك السياسات الداخلية والخارجية فضلاً عن كونها تدلل على قدرة وكفاءة إدارة الإمام محمد بن سعود فقد جعلت الدرعية مركزاً سياسياً مهمًا في وسط شبه الجزيرة العربية وبمكانه رفيعة بين حكامها وكان توحيد الإمام محمد لمناطقها الداخلية دوراً في جعل الدرعية مركزاً إدارياً واعداً لما ستراه المنطقة بعد ذلك من تطورات وأحداث مفصلية.

استكمال المشروع الوحدوي

وقد سار الإمام محمد بن سعود في استكمال مشروعه التأسيسي بتوحيد منطقة نجد وبلداتها في وحدة سياسية عربية - مسلمة قوامها الدين الحنيف والمنهج الإسلامي القويم بعيدًا عن الولاءات والانتماءات العرقية، والمذهبية، وخلال هذا المجهود الحربي الضخم في سبيل مشروعه الوحدوي عمل على نشر التعليم وتحويل الدرعية إلى حاضرة علمية، أيضًا في الجانب الاقتصادي كان سكان المنطقة مكونين من شريحتين رئيسيتين هما سكان الحاضرة وأهل البادية، وكان سكان الحاضرة يعملون في مهنتين أساسيتين هما التجارة والزراعة ولهذا سعي الإمام محمد طوال فترة حكمه لتأمين طرق التجارة من عاصمته إلى المناطق المجاورة لها وبينها وبين بقية المناطق في شبه الجزيرة العربية، كما قام بتشجيع الزراعة وتَمكِين المزارعين من الاستفادة القصوى من أراضيهم، فتحولت الدرعية وهي على ضفاف وادي حنيفة لواحة زراعية تمد نفسها والبلدات المجاورة لها من منتوجاتها الزراعية المختلفة، وكان أهل البادية رغم تنقلهم المستمر إلا أن تبعيتهم لحكم الدرعية جعلهم أهل إنتاج حيث كانوا يزودون البلدات النجدية بما تحتاجه من لحوم الجمال والخراف وألبانها وسمنها ويتبادلون مع أهل تلك البلدات البيع والشراء بأخذ ما يحتاجونه من أرزاق لحياتهم في البادية، فتحولت الدرعية بذلك إلى محطة تجارية آمنة في وسط شبه الجزيرة العربية.



التهيئة السياسية والإدارية للمؤسس

الدكتور عبدالله بن حسين الشريف أستاذ كرسي الملك سلمان بن عبدالعزيز لدراسات تاريخ مكة المكرمة بجامعة أم القرى تحدث عن مجموعة من المقومات التي مكنت الإمام محمد بن سعود من تأسيس الدولة السعودية:

أولها النشأة وبناء الشخصية القيادية فكما نعلم أن الإمام محمد نشأ في بيت سياسة وحكم وقد جرت العادة في مثل هذه الأسر الحاكمة أن يكون تغذية الأبناء بالقيم وبالصفات التي تؤهلهم لأن يتولى مناصب قيادية هامة في مستقبلهم وفي هذا الصدد قام الإمام سعود بإسناد مجموعة من الأعمال والمهام لابنه محمد وهو على رأس حكم إمارة الدرعية وذلك من أجل تهيئته ليكون خليفته في إمارة الدرعية من بعده، علمًا بأن الامام محمد تولى حكم الدرعية وهو في سن التاسعة والثلاثين من عمره.

طموح المؤسس وهواجسه

ويضيف الدكتور الشريف بأن الإمام محمد بن سعود كان يملك فكرًا قياديًا وهاجًا مليء بالطموح وبالإرادة وقد تجلى هذا الفكر في عملية تأسيس دولة ذات نفوذ كبير يتخطى حدود إمارة الدرعية، كما كان لديه مشروع وحدوي داخل شبه الجزيرة العربية يوحد الكثير من المناطق والأقاليم.

كما كان لديه بعد نظر ثاقب جدًا من خلال إرساء التنظيمات وبناء المؤسسات التي تحافظ على كيان الدولة فكيان بلا أنظمة سيكون معرضًا للسقوط، ومن ملامح هذا الطموح أيضا أنه زرع في أبنائه مواصلة مشروعه الوحدي وبناء الدولة وهذا ما حدث فعلاً من أبنائه من بعده الذين تعاقبوا على حكم الدرعية أثناء فترة حكم الدولة السعودية الأولى.

الدرعية والأهمية الإستراتيجية

من جانبها قالت المختصصة في التاريخ الحديث والمعاصر الدكتورة منال الشيخ عن الدرعية: كموقع إستراتيجي كان له أثره في التأسيس وتكوين دولة من خلال انتظام مشروع وجودي ضخم في شبه الجزيرة منها انطلق وكانت نقطة ارتكاز للدولة، وأضافت: إننا حين نتأمل في موقعها الجغرافي يتضح لنا أنها تملك موقعاً إستراتيجيًا لعاصمة دولة كبرى حيث تقع على أحد أهم الأودية في نجد (وادي حنيفة) عدا أنها تقع على أحد أهم الطرق التجارية القديمة، والذي يأتي من جنوب شبه الجزيرة العربية، ويعد طريقاً للحجاج القادمين من فارس والعراق ووسط آسيا حيث كانوا يواصلون سيرهم عبرالدرعية إلى مكة المكرمة..

وزادت أهميته بعد تأسيس الدرعية على يد مانع المريدي والذي سعى هو وأبناؤه وأحفاده الى تأمينه وخدمته..

شخصية المؤسس

وتنتقل بعد ذلك الدكتورة منال إلى شخصية المؤسس وما كان يتحلى به من سمات جعلت منه قائدًا فذًا نجح في تأسيس هذا الكيان الكبير وقالت: الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى تولى حكم الدرعية في أوضاع استثنائية حيث كانت من قبله في حالة ضعف وانقسام ونزاعات داخلية، وانتشار العديد من الأمراض وغيرها من المشاكل الخارجية، لكنه استطاع أن يتغلب على كل هذه التحديات ويوحدها ويسهم في نشر الاستقرار بها..

عـرف عن الإمام محمد بن سعود صفات متعددة، كالتدين، وحب الخير، والشجاعة، والقدرة على التأثير وهو امتداد لتاريخ أسلافه الذين بنوا الدرعية وحكموها، وانتقل بها من دولة المدينة إلى دولة واسعة..

صفات عربية أصيلة

وتشير الدكتورة منال إلى أن المؤسس كما هو حال أئمة الدولة السعودية الأولى تحلوا بصفـات العـرب النبيلـة، كالكـرم والمـروءة والشـجاعة والوفـاء والحلـم. وكان مجلـس الإمـام مفتوحـاً لاسـتقبال المواطنيـن يدخلـون عليـه يومياً..

كانوا كثيـري العطـاء والصدقـات للمحتاجيـن والوفـود وأهـل العلـم وطلبتـه ومعلمـي القـرآن والمؤذنيـن وأئمـة المسـاجد.

وبحانب عطاؤه وسخاؤه كان بارعاً في القيادة العسكرية والشجاعة والأقدام في خوض غمار التوحيد حيث استحدث أساليب وأنماط حربية جديدة في جميع المعارك التي كان يخوضها..

كل تلك المجهودات أدت من جانب آخر إلى نمو اقتصاد الدرعية و زادت أهميتها العلمية والدينية والعسكرية.