ثقافة

الذِّئب في الشِّعر العَرَبي-4 (دراسةٌ بيئيَّةٌ مقارنةٌ في المُثُل والجَماليَّات)

الذِّئب في الشِّعر العَرَبي-4 (دراسةٌ بيئيَّةٌ مقارنةٌ في المُثُل والجَماليَّات)
يُعنَى (البُحتريُّ) (1) بتصوير أسنان (الذِّئب) وصوت قَضْقَضَته، قائلًا:

يُقَضْقِضُ عُصْلًا في أَسِرَّتِها الرَّدَى... كقَضْقَضَةِ المَقْرُورِ أَرْعَدَهُ البَرْدُ


والعُصْل: جمع أَعْصَل، وناب أَعْصَل: بيِّن العَصَل، أي معوجٌّ شديد.(2) والشاعر، بالتشبيه الذي تضمَّنه بيته، قد أحسنَ تصوير قَضْقَضَة الذِّئب، كما أحسنَ بتوظيف الموسيقى اللفظيَّة، في كلمة «يُقَضْقِض»؛ بما تحمله (القاف) و(الضاد) من غِلَظٍ وشِدَّة، مع (الراء) التردُّديَّة، التي تتكرَّر في أجزاء البيت، لتُضِيف حيويَّةً أدائيَّةً في تمثيل حركة أسنان الذِّئب وصوتها.

ويُصوِّر (ابنُ مُقْبِل)(3) (الذِّئبَ)، وقد افترس ولد بقرةٍ وحشيَّة، واصفًا جسمه، وسَعة شِدقَيه، وخِفَّة حركته، إذ يقول:


حتَّى احـتوَى بِكرَها بالجَـوِّ مُطَّرِدٌ... سَمَعْمَعٌ أَهْـرَتُ الشِّدْقَيْنِ زُهْلُـوْلُشَـدَّ المَماضِـغَ مِـنْـهُ كُـلَّ مُنْـصَرَفٍ... مِنْ جانِـبَـيهِ، وفي الخُرْطُومِ تَسْهيلُلم يَـبْـقَ مِنْ زَغَبٍ طَـارَ النَّسِيْلُ بِـهِ ... عـلى قَـرا مَـتْـنِــهِ إلَّا شَــمالِـيْـلُ

كـأنَّمـا بَـيـنَ عَـيـنَـيـهِ وزُبْـرَتِـهِ ... مِنْ صَبْغِـهِ في دِمَـاءِ القَـوْمِ مِنْدِيـلُ

كالرُّمْحِ أَرْقَلَ في الكفَّينِ واطَّرَدَتْ ... مِنْـهُ القَـنَـاةُ ، وفـيها لَـهْـذَمٌ غُـوْلُ

يَطْـوِيْ المَـفَـاوزَ غِيطانًا، ومَنْـهَلُـهُ ... مِنْ قُـلَّةِ الحَـزْنِ أَحْوَاضٌ عَدامِـيْلُ

فيحشد من صفات الذِّئب ما يُجَسِّد صورتَه: مطَّردَ الجِسم، قويَّه، سَمَعْمَعًا: خفيفًا، واسعَ الشِّدقَين، في خرطومه طُول، أجردَ الشَّعر، إلَّا بقايا زَغَب على ظهره، متلطِّخًا بالدِّماء، كالرُّمح، قلقًا لا يَقِرُّ له قرار. يُكثِّف بصفاته هذه الإحساسَ بشراسته وتوحُّشه. وهو نمطٌ من الوصف يتردَّد في الشِّعر العَرَبي القديم، لا لتصوير هيئة الذِّئب، لذاتها، بل للتعبير عن نظرتهم إلى هذا الحيوان، وما كان يمثِّله في المخيِّلة من الشَّر والغَدر، مع شِدَّة الصَّبْر والمِراس(4)

وهذا شاعرٌ آخَر يقول في التخويف منه:

الخَـوْفُ خَـيرٌ لـكَ مِنْ لُغـاطِ

ومِـنْ أُلالاتٍ إلـى الأَراطـيومِنْ طَويلٍ الخَطْمِ ذي اهْتِماطِ

ذي ذَنَـبٍ أَجْـرَدَ كالمِـسْـوَاطِ

يَمـتـلِخُ العَينَـينِ بانـتـشـاطِ

وفَـرْوَةَ الرَّأْسِ عَنِ المِـلْطَـاطِ (5)

فهو جريء: «ذو اهتماط»، يلفت الشاعرَ منه: خَطْمُه وذنَبُه، الأوَّل بطوله، وما يوحي به من الحِدَّة والشَّراسة، والآخَر بانجراده -يشبِّهه بالمِسواط، وهو الخشبة التي يحرَّك بها ما في القِدر ليختلط(6)- وما يوحي به من شِدَّته وحيلته وغدره، مستشهِدًا على ذلك بامتلاخه عَين البعير؛ إذْ يُقال: إنَّ الذِّئب «يأتي البعيرَ- وهو باركٌ- فيحكُّ أصلَ ذنَبه، كأنَّما ينزع القُراد منه، فيستلذُّ ذلك البعيرُ، ثمَّ يدنو إلى جَنبه، فيفعل كذلك، فإذا التفت البعيرُ التحسَ عَيْنَـهُ بلسانه فقلعَها، وذلك التقريد. (7) وما زعمهم أنَّ الذِّئب يقتلع عَين البعير بلحسه إيَّاها إلَّا وهمٌ محض، لا يُتصوَّر واقعه، وإنَّما هو وليد ما يحمله الذِّئب في المخيِّلة الشَّعبيَّة من صورةٍ نمطيَّةٍ للشَّرِّ والغَدر المفزِعَين.

[ولحديث الذئاب بقيَّة تحليل].

(1) (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 743.

(2) يُنظَر: الجوهري، صِحاح اللُّغة، (عصل).

(3) (1962)، ذيل ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم، 385- 387/ 35- 40.

وتُنسَب القصيدة التي منها الأبيات إلى (جِران العَود) أيضًا. (يُنظَر: (1931)، ديوان جِران العَود النُّمَيري، رواية: أبي سعيد السكَّري، باعتناء: أحمد نسيم، (القاهرة: دار الكتب المِصْريَّة، 40- 41).

(4) ويُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (1999)، شِعر ابن مُقْبِل: قَلَق الخَضْرَمة بين الجاهلي والإسلامي (دراسة تحليليَّة نقديَّة)، (جازان: نادي جازان الأدبي، 1: 367- 368.

(5) الحُطيئة، (1958)، ديوان الحُطيئة، (شرح: ابن السكِّيت، والسكَّري، والسجستاني)، تحقيق: نعمان أمين طه، (مِصْر: مطبعة البابي الحلبي وأولاده، 65.

(6) يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (سوط).

(7) يُنظَر: الحُطيئة، م.ن.

ومن هذا جاء المجاز المركَّب التمثيلي في قول العَرَب: «فلانٌ يُقَرِّد فلانًا»، أي يتلطَّف له، كمن يزيل القُراد عن جسم البعير ليسكُن إليه. وهو ما يَرِد على ألسنة العوامِّ في بعض لهجات الجزيرة العَرَبيَّة اليوم، في قولهم: «فلان يقَرْدِن فلانًا». على أنَّ في معنى (التَّقريد)، كما في معنى (القَرْدَنة)، إشارة إلى التلطُّف للخِداع، لا التلطُّف الخيِّر، نجد أصله في زعم العَرَب هذا، أنَّ الذِّئب يُقَرِّد البعير ليلتحس عينه.

أخبار ذات صلة

المملكة تحتفل بالسنة الدولية للإبل 2024 في جنيف
المملكة تحتفل بالسنة الدولية للإبل 2024 في جنيف
رئيس الهيئة العليا للحج والعمرة لجمهورية العراق يزور حي حراء الثقافي
رئيس الهيئة العليا للحج والعمرة لجمهورية العراق يزور حي حراء الثقافي
الثقافة والفنون السعودية تحلق عالمياً
الثقافة والفنون السعودية تحلق عالمياً
«ورنر برذرز» في «موسم جدة»
«ورنر برذرز» في «موسم جدة»
;
نجلاء وسمية تحاكيان إبداعات «البدر» بالريشة
نجلاء وسمية تحاكيان إبداعات «البدر» بالريشة
انطلاق حملة التوعية ومحو الأمية بمركز ناوان في المخواة
انطلاق حملة التوعية ومحو الأمية بمركز ناوان في المخواة
جلوي بن عبدالعزيز يستقبل ضيوف مهرجان "صيف نجران"
جلوي بن عبدالعزيز يستقبل ضيوف مهرجان "صيف نجران"
المملكة تختتم مشاركتها في معرض بكين الدولي للكتاب 2024
المملكة تختتم مشاركتها في معرض بكين الدولي للكتاب 2024
;
إطلاق مركز الفنون الأدائية .. أول المعالم الثقافية في القدية
إطلاق مركز الفنون الأدائية .. أول المعالم الثقافية في القدية
العسومي يشيد بإسهامات المرأة العربية في المجال الدبلوماسي
العسومي يشيد بإسهامات المرأة العربية في المجال الدبلوماسي
عبر ليلة العشاء السعودي .. الصينيون يتعرفون على الأطباق الوطنية
عبر ليلة العشاء السعودي .. الصينيون يتعرفون على الأطباق الوطنية
دورة قرآنية في غرة محرم بالمسجد الحرام
دورة قرآنية في غرة محرم بالمسجد الحرام
;
حضور لافت لجائزة الأمير محمد بن سلمان للتعاون الثقافي بمعرض بكين الدولي للكتاب
حضور لافت لجائزة الأمير محمد بن سلمان للتعاون الثقافي بمعرض بكين الدولي للكتاب
"لغة التذوق، لغة التواصل".. أولى ندوات الجناح السعودي في معرض بكين الدولي للكتاب 2024
"لغة التذوق، لغة التواصل".. أولى ندوات الجناح السعودي في معرض بكين الدولي للكتاب 2024
"الدارة" تشارك في "كتاب بكين" بإصداراتها العلمية
"الدارة" تشارك في "كتاب بكين" بإصداراتها العلمية
"التعاون الإسلامي" تحتفي باليوم العالمي للاجئين
"التعاون الإسلامي" تحتفي باليوم العالمي للاجئين