كتاب
فلسفة الضيافة تحت مشرط "دريدا"
تاريخ النشر: 21 يونيو 2023 22:56 KSA
لطالما كانت الضيافة مفهوماً حساساً ومركزياً في الفكر الإنساني، وذلك لأنها تتصل مباشرة بعلاقة الإنسان بالآخر، لذلك نجد أن الفكر الإنساني بمختلف توجهاته أولاها أهمية خاصة، وخصص لها مبحثاً مستقلاً يدعى (فلسفة الضيافة).. لكن فيلسوف التقويض جاك دريدا يرفض إلا أن يترك بصمته الخاصة على هذا المفهوم أيضاً.. وفقاً لدريدا يظل مفهوم الضيافة صعباً وإشكالياً، وربما عصياً على التأطير النهائي، لأن الضيافةَ المطلقة تعني -في رأيه- الانفتاح على فكرة بذل الإنسان كلَّ ما يملك لهذا الآخر، وهذا ما يجعل سنّ قوانين عامة للضيافة أمراً مستحيلاً ومتناقضاً.. وذلك لأن الحديث هنا عن طرفين دوماً، وكلا الطرفين يمكن تطبيق الأمر عليهما، والضيف الذي يأخذ سيتحول إلى مُضيف يُعطي، وهذا يعني أنه سيكرر ممارسة الباذل الأول، ويعطي كل ما لديه، وهذا يقود إلى تأكيد رأيه أن الضيافة المطلقة غير المشروطة أمر متعذر.
وكعادته يعمل دريدا على تقويض مفهوم الضيافة عبر تتبع دقيق لتاريخ تطوره الدلالي.. في هذه الرحلة تلتصق دلالات متناقضة بالجذر المتحول للفظ (hospitality) من مثل: ضيف، غريب، عدو أو عدائي... وهو بهذا يضع يده على مكمن التناقض في مفهوم الضيافة، وفي قانون الضيافة، فمادامت الضيافة مرتبطة بمفهوم الملكية (المضيف صاحب أرض يستضيف فيها الغريب عنها الذي لا يملك إلا حق الزيارة) فإن الضيافة غير المشروطة مستحيلة. من هنا يؤكد على أن مفهوم الضيافة يرسخ ضمناً المسافة بين مالك المكان والغريب، وهو بذلك يحمل تناقضاً داخلياً يجعل أمر تحققه في الحاضر أمراً مستحيلاً، لا يتحقق إلا في المستقبل الذي لن يأتي.. وما دام المضيف، وهو يقدم للضيف كل شيء (الترحاب والمأوى والزاد ويقول: المحل محلك)، يدرك أن هذا بيته وملكه فلن يستطيع الضيفُ أن يصبح صاحبَ بيت أبداً، ولو حاول أن يفعل حقيقةً، أي أن يتصرف كأنه في بيته، فسيستحيل الأمر لحالة عداء على الأرجح.
إن كلمة الترحيب (أهلاً وسهلاً) تحمل ضمناً تشبث الشخص بملكيته -كما يؤكد دريدا- وهي تمثل ما يشبه إعلان السيادة الذي يقدمه المضيف للضيف، السيادة على المكان، بل إنه يذهب إلى أنها طريقة المضيف لتأكيد سيادته، والتباهي بما لديه، وهو ما يجعل ضيوفه في حالة تردد وعدم ارتياح تمنعهم ربما من لمس شيء في هذا المنزل. وكأن عبارة الترحيب تنقلب لتصبح عبارة تحذير تكرّس غربة الضيف وتشدد على نقصه، وهكذا تغدو بقية التعابير تأكيداً لهذه الحقيقة: وتصبح عبارة (البيت بيتك- make your self t home)، دعوة محدودة ذاتيًا، وكأنها تعني 'أرجو أن تشعر وكأنك في المنزل، أو تصرف كما لو كنت في المنزل، ولكن تذكر، هذا ليس صحيحًا، فهذا ليس منزلك بل منزلي، ومن المتوقع أن تحترم ممتلكاتي'.
يضع دريدا الأمر في سياقه ليؤكد على أهمية الضيافة كمبحث فلسفي سياسي في الوقت ذاته، لأن مفهوم الضيافة -كما رأى إيمانويل كانْت وغيره- يستلزم وجود طرفين: سيد وضيف، (سيد البيت أو سيد البلد، الذي يملك سلطة السيطرة على المكان).. كون الشخص مضيافاً يفترض أولاً وجود إمكانية الاستضافة (أي سلطة أن يستضيف)، وهذا يعني أن المِلكية لا بد أن تكون حاضرة، وهذا -وفقاً- لدريدا يستوجب تشكيلَ هوية للذات، كما تستلزم الضيافة -بالتالي- نوعاً من السلطة على المستضاف، (فالضيف الذي يستولي على البيت عنوةً لن يصبح ضيفاً وينتقل إلى مفهوم تصنيفي آخر: معتدٍ، أو مالك جديد.. الخ)، وهو ما يعني أن مفهوم الضيافة لم يعد حاضراً في هذه الحالة.. ولهذا، وكي يبقى المضيف مضيفاً، وتبقى الضيافة ممكنة، يحتاج المضيف بأن يكون مسيطراً ومتحكماً في ضيوفه: (من ذلك تحديد مكان لجلوس الضيوف أو مبيتهم، اختيار نوع المأكل والمشرب، تحديد حدود الملكية وإغلاقها، ومن ذلك حدود البلد وحمايتها، تشكيل مفهوم للمواطنة، منعُ مجموعة معينة من زيارة المكان أو البلد... الخ).
هذا هو المفهوم الممكن للضيافة حسبما يذهب دريدا، وهو يتضمن أولاً -كما نرى- تأطيراً خاصاً لمفهومنا للذات، وحدود ملكيتنا، ننطلق منه نحو ممارسة قيمة أخلاقية، ندعوها حسن الضيافة تجاه آخر جعلناه -بالضرورة- غريباً أو لاجئاً.. وهكذا تظل الذات أصلاً ثابتاً، والآخر فرعاً مؤقتاً في المكان والزمان.. وبهذا يقوّض دريدا مفهوماً آخر عبر كشف تناقضاته الداخلية.. ويبقى الأمر وهذه الحال، في جاذبية الفضيلة الأخلاقية المغرية التي تشد البشر نحو الضيافة، ليس إلا.
وكعادته يعمل دريدا على تقويض مفهوم الضيافة عبر تتبع دقيق لتاريخ تطوره الدلالي.. في هذه الرحلة تلتصق دلالات متناقضة بالجذر المتحول للفظ (hospitality) من مثل: ضيف، غريب، عدو أو عدائي... وهو بهذا يضع يده على مكمن التناقض في مفهوم الضيافة، وفي قانون الضيافة، فمادامت الضيافة مرتبطة بمفهوم الملكية (المضيف صاحب أرض يستضيف فيها الغريب عنها الذي لا يملك إلا حق الزيارة) فإن الضيافة غير المشروطة مستحيلة. من هنا يؤكد على أن مفهوم الضيافة يرسخ ضمناً المسافة بين مالك المكان والغريب، وهو بذلك يحمل تناقضاً داخلياً يجعل أمر تحققه في الحاضر أمراً مستحيلاً، لا يتحقق إلا في المستقبل الذي لن يأتي.. وما دام المضيف، وهو يقدم للضيف كل شيء (الترحاب والمأوى والزاد ويقول: المحل محلك)، يدرك أن هذا بيته وملكه فلن يستطيع الضيفُ أن يصبح صاحبَ بيت أبداً، ولو حاول أن يفعل حقيقةً، أي أن يتصرف كأنه في بيته، فسيستحيل الأمر لحالة عداء على الأرجح.
إن كلمة الترحيب (أهلاً وسهلاً) تحمل ضمناً تشبث الشخص بملكيته -كما يؤكد دريدا- وهي تمثل ما يشبه إعلان السيادة الذي يقدمه المضيف للضيف، السيادة على المكان، بل إنه يذهب إلى أنها طريقة المضيف لتأكيد سيادته، والتباهي بما لديه، وهو ما يجعل ضيوفه في حالة تردد وعدم ارتياح تمنعهم ربما من لمس شيء في هذا المنزل. وكأن عبارة الترحيب تنقلب لتصبح عبارة تحذير تكرّس غربة الضيف وتشدد على نقصه، وهكذا تغدو بقية التعابير تأكيداً لهذه الحقيقة: وتصبح عبارة (البيت بيتك- make your self t home)، دعوة محدودة ذاتيًا، وكأنها تعني 'أرجو أن تشعر وكأنك في المنزل، أو تصرف كما لو كنت في المنزل، ولكن تذكر، هذا ليس صحيحًا، فهذا ليس منزلك بل منزلي، ومن المتوقع أن تحترم ممتلكاتي'.
يضع دريدا الأمر في سياقه ليؤكد على أهمية الضيافة كمبحث فلسفي سياسي في الوقت ذاته، لأن مفهوم الضيافة -كما رأى إيمانويل كانْت وغيره- يستلزم وجود طرفين: سيد وضيف، (سيد البيت أو سيد البلد، الذي يملك سلطة السيطرة على المكان).. كون الشخص مضيافاً يفترض أولاً وجود إمكانية الاستضافة (أي سلطة أن يستضيف)، وهذا يعني أن المِلكية لا بد أن تكون حاضرة، وهذا -وفقاً- لدريدا يستوجب تشكيلَ هوية للذات، كما تستلزم الضيافة -بالتالي- نوعاً من السلطة على المستضاف، (فالضيف الذي يستولي على البيت عنوةً لن يصبح ضيفاً وينتقل إلى مفهوم تصنيفي آخر: معتدٍ، أو مالك جديد.. الخ)، وهو ما يعني أن مفهوم الضيافة لم يعد حاضراً في هذه الحالة.. ولهذا، وكي يبقى المضيف مضيفاً، وتبقى الضيافة ممكنة، يحتاج المضيف بأن يكون مسيطراً ومتحكماً في ضيوفه: (من ذلك تحديد مكان لجلوس الضيوف أو مبيتهم، اختيار نوع المأكل والمشرب، تحديد حدود الملكية وإغلاقها، ومن ذلك حدود البلد وحمايتها، تشكيل مفهوم للمواطنة، منعُ مجموعة معينة من زيارة المكان أو البلد... الخ).
هذا هو المفهوم الممكن للضيافة حسبما يذهب دريدا، وهو يتضمن أولاً -كما نرى- تأطيراً خاصاً لمفهومنا للذات، وحدود ملكيتنا، ننطلق منه نحو ممارسة قيمة أخلاقية، ندعوها حسن الضيافة تجاه آخر جعلناه -بالضرورة- غريباً أو لاجئاً.. وهكذا تظل الذات أصلاً ثابتاً، والآخر فرعاً مؤقتاً في المكان والزمان.. وبهذا يقوّض دريدا مفهوماً آخر عبر كشف تناقضاته الداخلية.. ويبقى الأمر وهذه الحال، في جاذبية الفضيلة الأخلاقية المغرية التي تشد البشر نحو الضيافة، ليس إلا.