هارون الرشيد و «المرأة البرمكية»!!

لأبو بكر الخوارزمي الشاعر العباسي قصيدة شهيرة عن حال الدنيا وتقلباتها، فليس هناك شيء يدوم إلا وجهه الكريم، وما دونه فمصيره الزوال، لأن دوام الحال من المحال كما يقال في الأمثال.. يقول الشاعر في أحد أبيات هذه القصيدة: «إذا تم شيئاً دنا نقصه»، ولهذا البيت قصة.

فيروى في العصر العباسيّ قصة المرأة البرمكية (من البرامكة) التي دخلت في أحد الأيام ديوان الخليفة العباسي هارون الرشيد، وهي من قوم قد قتل الخليفة رجالهم، فرمل نساءهم ويتّم أولادهم، وكان ديوانه عامراً بالبلغاء والعلماء والخطباء والفصحاء، ووقفت المرأة بين يدي الخليفة، وقالت له: السلام عليكم أيها الخليفة، أقر الله عينك، وفرحك بما جاءك، وأتم عليك سعدك، لقد حكمت فقسطت، فقال لها الخليفة هارون الرشيد: ومن أنت أيتها المرأة؟ فقالت له المرأة: أنا من البرامكة، الذين قمت بقتل رجالهم، وأخذت أموالهم، وسلبت منهم إرثهم، فقال لها أمير المؤمنين هارون الرشيد: أما رجالكم فقد أتاهم قدرهم، وأما ما أخذت من أموالهم فإني أرده عليك، فأخذت المرأة المال من الخليفة وغادرت الديوان.

وبعد أن خرجت المرأة من ديوان الخليفة، نظر الخليفة هارون الرشيد إلى من في الديوان، وسألهم قائلاً: هل تعرفون معنى الكلام الذي قالته هذه المرأة؟ قالوا له: إنها لم تقل كلاماً أو شيئاً سيئاً، بل إن كل ما قالت هو خير، فقال لهم أمير المؤمنين هارون الرشيد: أنا أخبركم بما قالت هذه المرأة، أما قولها: أقر الله عينك، فإنها تقصد به أن تتوقف عيني عن الدوران والحركة، والعين لو توقفت حركتها مات الإنسان، وأما قولها: فرحك بما جاءك، فهي قصدت بذلك قوله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة).

وأما قولها: أتم الله عليك سعدك، فهي تقصد ما قاله الشاعر أبو بكر الخوارزمي حينما قال:

إذا تمّ شيئاً بدا نقصه

ترقّب زوالاً إذا قيل تم

أما عندما قالت لي: إنك قد حكمت فقسطت، فهي تقصد من ذلك قوله تعالى: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً)، فتعجب من كان في ديوان الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد من فصاحة هذه المرأة وجمال لغتها، وعلمها في الكلام، وقدرتها على التورية، فقد كان ظاهر كلامها دعاءً ومدحاً للخليفة، بينما كانت تقصد أن تدعو عليه بالشر من دون أن يعلم، وتعجبوا أيضاً من نباهة الخليفة هارون الرشيد الذي فهم لما أضمرت، وقصدها مما قالته له، وبالرغم من ذلك قدر ظرفها وعاملها بكل لطف ولين.