كتاب

تنوُّع الأذواق والمسامع في حارة المصانع..!

أشياءُ كثيرةٌ علَّمتنِي التنوُّع والتعدُّد والاختلافَ في طفولتِي، فأنَا فتحتُ عيني على تعدُّدِ الأشكالِ والأطعمةِ والملابسِ واللَّهجاتِ والمقاماتِ الموسيقيَّةِ؛ نظرًا لأنَّني نشأتُ وترعرعتُ في المدينةِ المنيرةِ.

في هذا المقالِ سأوضِّحُ التعدُّدَ والتنوُّعَ الذي تعلَّمتُه من الموسيقَى، وهذِهِ القصَّةُ حصلتْ في عام 1979، عندمَا كنَّا نسكنُ في الحيِّ المسمَّى «المصانع» سابقًا، وحيِّ «البيعةِ» حاليًّا.


كنتُ أنَا وأقرانِي من محبِّي الطَّربِ، لذلكَ قُمنَا بعملِ «قطةٍ» أو «الباي» -كمَا يسمُّونَهُ في الحارةِ- واشتركنَا في شراءِ مسجِّلٍ من ماركةِ فيليبس، وبدأنَا نجتمعُ كلَّ ليلةٍ في طرفِ الحارةِ من السَّاعةِ التَّاسعةِ ليلًا حتَّى الثَّانية عشرة نتحلَّقُ ونستديرُ حولَ المسجِّلِ في حالةِ استماعٍ وطربٍ يسرُّ السَّامعِينَ.

لقدْ كنَّا نختلفُ في تذوُّقِنَا للأغانِي، وحتَّى نخرجَ من معركةِ الأذواقِ اتَّفقنَا أنْ يختارَ كلُّ واحدٍ على ذوقِهِ مرَّةً في الأسبوعِ -طبعًا- استبعدُونِي أنا واثنِين من الرِّفاقِ؛ لأنَّنا لمْ ندفعْ كاملَ المبلغِ «من القطة»، واكتفينَا بدفعِ النِّصفِ، لذلكَ كنَّا نحضرُ على هيئةِ مستمعِينَ فقطْ، ولا خياراتَ لنا فيمَا نسمعُ!


أمَّا قائمةُ الأذواقِ في تلكَ الأيامِ، فهِي حسب مَا أذكرُ على النَّحو التَّالي:

* يومُ السَّبت: هي ليلةٌ ينبعاويَّةٌ بامتيازٍ، فقدْ كانَ «أبو صفية الينبعاوي» يستولِي على الـ»دي جي»، أقصدُ المسجِّلَ، ويتحكَّمُ في مسارِ الأغانِي، ولازلتُ أحفظُ حتَّى الآن الأغنيةَ الينبعاويَّةَ التي تقولُ:

يا قاضي الحاجات تقضي حاجة المظلوم..

والخير مقبل بخت منهو ياخذ المقسوم..

* يومُ الأحد: كانَ صديقنَا «علي عبده اليماني» يتولَّى مسارَ الأغانِي في تلكَ الليلةِ، وأتذكَّرُ أنَّه كانَ ميَّالًا للفنَّان «فيصل علوي» -رحمه الله- وفي كلِّ أسبوعٍ يفرضُ علينَا أغنية:

كيف الحال يا مغترب.. يا طيَّار فوق السحب

هل أنت على ما يجب.. أم أنَّك بحالة صعب

وقدْ حاولنَا مع «أبي عبده» أنْ يسمعَنَا الفنَّانين الآخرِين مثل السنيدارِ أو المعطريِّ أو أيوب طارش، أو أمل كعدل، ولكنْ كلُّ مفاوضاتِنَا معه سكنتْ في منطقةِ الفشلِ.. واعتذرَ بحجَّةِ عدمِ توفُّر أشرطةِ «كاسيت» لهؤلاءِ.

* يومُ الاثنين: هي ليلةُ صاحبِنَا «أنس» من المملكةِ المغربيَّةِ، حيثُ حضرَ مع والدِهِ «العالمِ الجليلِ» الذي يدرِّسُ في الجامعةِ الإسلاميَّةِ، فإذَا جاءَ دورُه أسمعَنَا شيئًا من أغنيةِ:

ياك جرحي جريت وجاريت

حتَّى شي ما معزيت فييييك

وأحيانًا كانَ يطربُنَا بشيءٍ من عبدالوهاب الدوكالي، ومراسيل حبِّه.

* يومُ الثلاثاء: في تلكَ الليلةِ كانَ صديقُنَا «أبو عوف» يتولَّى الـ»دي جي»، ويطربنَا بالفنَّانِ الرَّاحلِ فوزي محسون -رحمه الله- وبالذَّات أغنية:

روح أحمد الله وبس زيي أنا ما تلاقي..

سهران كأنِّي العسس وأشكي عليك ما ألاقي..

أو علي عبدالكريم من خلال أغنية «جاني الأسمر جاني»، أو طلال مداح -رحمه الله- من خلال «مقادير»، أو محمد عبده من خلال «لنا الله».

* يومُ الأربعاء: هي ليلةُ «كمال حمدي» وهو شابٌّ مصريٌّ يأتينَا من أقصَى الحارةِ، وقد اختارَ يومَ الأربعاءِ؛ لأنَّه آخرُ الأسبوعِ -آنذاك- فكانَ يطربنَا بأمِّ كلثوم، وبالذَّات أغنية:

«حسيبك للزمن، لا عتاب ولا شجن»، وكان يكتبُ عبارة «حسيبك للزَّمن» على لوحةٍ خلفيَّةٍ علَّقها على ظهرِ دبابِهِ، وإذَا انتهتْ أمُّ كلثوم أسمعنَا وردة الجزائرية، وبالذَّات أغنية «وحشتوني وحشتوني».

* يومُ الخميس: كانت ليلةَ «الشَّبح» هذا القصمنجيُّ المتوغلُ في شعبيَّتهِ، حيثُ يسمعنَا حجاب بن نحيت، وفهد بن سعيد، وعبدالله الصريخ، وسلامة العبدالله، وبشير شنان، -رحمهم الله جميعًا- ولازلتُ من تلكَ الأيامِ أحفظُ أغنية بشير شنان التي يقولُ فيهَا:

ياليت سوق الذهب يفرش حرير..

من شان فيه الحبيبة شفتها..

شفت أنا سارة وأنا بالسوق أسير..

هي كلَّمتني وأنا كلَّمتها..

* يومُ الجمعة: هي ليلةُ الصَّديق السُّودانيِّ «أبي عطبرة محمد خاتم السر»، وكان يجعلهَا ليلةً سودانيَّةً، ويحدِّثنَا عن «السلَّم الخُماسي»، وأنَّه خاص بالفنِّ السودانيِّ، وأعترفُ أنَّنا -جميعًا- لا نعرفُ السلَّم الخُماسي، وكنَّا نردِّدهَا كمَا نسمعُهَا من «أبي عطبرة»، الذي هُو -أيضًا- نقلهَا عن أبيهِ دونَ أنْ يفهمَ معناهَا، وقدْ كانَ هذَا الشَّابُّ السودانيُّ اللَّطيفُ المجتهدُ في دراستِهِ يتمايلُ عندمَا يسمعُ أغنيةً بعنوان: «اللي يسأل ما بيتوه»، وهي من أداءِ فرقةِ البلابلِ السودانيَّةِ، التي تُعدُّ من أكثرِ الفرقِ الموسيقيَّةِ شعبيَّةً في السودان، حيثُ تتألَّفُ الفرقةُ من ثلاثِ شقيقاتٍ سودانيَّاتٍ من أصلٍ نوبيٍّ «آمال، وهادية، وحياة طلسم»، وقد وُلدت الشقيقاتُ الثَّلاثُ في أم درمان، ومنها بدأتْ رحلتهنَّ عام 1971، عندما طلبَ منهنَّ الملحنُ وعازفُ العودِ بشير عباس الانضمامَ إلى فرقةٍ فلكلوريَّةٍ، ولا زلتُ أحفظُ بدايةَ الأغنيةِ حيثُ تقولُ:

اللي يسأل ما بتوه.. دارنا نحن قريبة ليه..

إنت ما مجبور علينا.. نحن مجبورين عليك..

حسنًا ماذَا بَقِيَ:

بَقِيَ القولُ: هذِهِ صفحةٌ من التعدُّدِ والتنوُّعِ والاختلافِ الذي اكتسبتُهُ من حارةِ المصانعِ في المدينةِ المنيرةِ، وأتمنَّى من اللهِ أنْ يمدَّ في عمرِي حتَّى أكتبَ سيرةً متكاملةً عن تلكَ الحارةِ التي عشتُ فيها مرَّتين أو ثلاثًا.

أمَّا عن الأسماءِ المذكورةِ في المقالِ فهي رموزٌ يعرفُها أصحابُها، تعمَّدتُ عدمَ ذكرِ أسمائِهم الحقيقيَّة؛ لأنَّني لمْ أستأذنْ منهم، لذلكَ رويتُ القصَّةَ ملبسًا أصحابَهَا ثيابَ الأسماءِ المستعارةِ.

أخبار ذات صلة

الطرق البطيئة
في العتاب.. حياةٌ
مهارة الإنصات المطلوبة على المستوى الدولي
مقوِّمات.. لاستقرار الشركات العائلية
;
ستيف هوكينغ.. مواقف وآراء
لا تخرج من الصندوق!
(قلبي تولع بالرياض)
سياحة بين الكتب
;
تمويل البلديات.. والأنشطة المحلية
الإدارة بالوضوح!
نحـــــاس
أدوار مجتمعية وتثقيفية رائدة لوزارة الداخلية
;
«صديقي دونالد ترامب»
قِيم الانتماء السعودية
جدة.. الطريق المُنتظر.. مكة!!
إسراف العمالة (المنزليَّة)!