كتاب

طرشــــــــي

هذا المقال عن الطيران، ولكنني سأبدأ بالحديث عن المخللات. بداخل معظم الطائرات المقاتلة ستجد زراً اسمه «زر الطرشي» pickle switch، وله خلفية تستحق التأمل. تصويب القنابل من البر، والبحر، والجو، هو عملية صعبة للغاية تحتاج إلى حسابات معقدة، ومتعددة الأوجه. وفي التصويب الجوي، بشكل خاص، تزداد التعقيدات بسبب الارتفاعات الشاهقة، والسرعات العالية، ومعدلات الاقتراب، ودرجة ثبات الطائرة. وفي بدايات الحرب العالمية الثانية رصدت ثاني أكبر ميزانية في بند المشاريع العسكرية الأمريكية لمجابهة هذا التحدي.. وتحديداً، رصد حوالى ألف وخمسمائة مليون دولار للارتقاء بدقة قذف القنابل من الجو. تم تكليف العالم الهولندي الأصل «نوردون» باختراع جهاز للتصويب عام 1939.. كان الجهاز في قمة التعقيد: تروس، وعدسات، وأزارير، وعجل، في إطار غلاف معدني أكبر من البطيخة، وبوزن يفوق وزن طلي متوسط الحجم. وكانت ثقة القطاع العسكري كبيرة في الجهاز. وكان الادعاء آنذاك أن دقته تستطيع أن توجه قنبلة صغيرة إلى فتحة برميل «طرشي» من على ارتفاع عشرة آلاف قدم. طبعاً لم تضع وزارة الدفاع الأمريكية أي معايير لحجم القنبلة المعنية، ولا لقياس البرميل، ولا لحبة الطرشي، ولكن التشبيه كان ظريفاً. استمر عبر السنين، وأصبح من مكونات تجهيزات الطائرات الحربية إلى اليوم. ولكن دقة جهاز التصويب لم تكن على الدرجة المتوقعة، كما انعكست من نتائج الغارات على المدن الألمانية واليابانية من قاذفات القنابل الأمريكية.. فضلاً الملاحظة أن الهدف من اختراع الجهاز كان ضرب الأهداف الإستراتيجية، وتقليص الأهداف المدنية التي تعتبر من «الأضرار الجانبية». وللعلم، كانت قاذفات القنابل الأمريكية تعمل نهاراً على الأهداف الألمانية، وكان المفروض أن يرفع ذلك من مستوى الدقة. وأما قاذفات القنابل الإنجليزية فكانت تعمل ليلاً ضد ألمانيا، وكانت مجهزة بأكثر من جهاز للتصويب الدقيق، وأشهرها منظومة «أوبو» بمعنى المزمار، وكان التصويب بالتوجيه من جهازي «البِس» و»الفأر»، والرادار قصير الموجه.. الشاهد أن بعد كل هذا.. بِس.. وفأر.. ومزمار.. وطرشي.. كانت النتائج مخجلة للغاية.. عدد القتلى المدنيين بسبب عمليات القذف الجوي خلال عمليات الحرب العالمية الثانية خلال الفترة 1939- 1945 كانت أكثر من ستمائة ألف إنسان في ألمانيا في ستين مدينة ألمانية، وحوالى سبعمائة ألف إنسان في اليابان في ستة وستين مدينة يابانية.. وانتهت الحرب العالمية الثانية بضرب الأهداف المدنية بالقنابل الذرية في مدينتي «هيروشيما» و»ناجازاكي» بدون أي مراعاة لدقة التصويب.

جاء كل هذا على بالي عندما قرأت أن طائرات الإف 35 الإسرائيلية، الشهيرة بالاسم العبري «أدير»؛ شاركت بفعالية في الحرب على غزة.. وتحديداً على أهالي المدينة الصامدة.. وتملك تلك المقاتلة أحدث أجهزة ملاحة وتصويب في العالم اليوم، فهي تستخدم منظومات قنابل وصواريخ ذكية، بل إن حتى قنابلها «غير الذكية» هي أذكى وأكثر دقة؛ من القنابل الذكية المستخدمة في العديد من الطائرات المقاتلة من الأجيال الأقدم.. وبالرغم من كل هذا، تم ضرب المستشفيات، والمدارس، والديار، ولم يسلم البشر ولا الحجر الغزاوي من قسوة تلك الأسلحة. وكانت القوات الجوية الإسرائيلية تتباهي بأن مشاركة تلك الطائرات المتطورة كانت بمستويات عالية تصل إلى أربع طلعات يومياً.. يعني جدارة تشغيلية، وخيبة إنسانية.


* أمنيـــــــة:

استخدام التقنيات المتطورة لقتل المدنيين لا يُبرَّر مهما كانت الأسباب، وما نشهده اليوم من قتل للأبرياء في غزة ليس له مثيل في التاريخ الحديث؛ للقسوة والتجاوزات الإنسانية. أتمنى أن تتوقف هذه الحرب على المدنيين فوراً، وأن تطوع التقنية لخدمة البشرية، وليس لدمارها، والله في عون الأبرياء، وهو من وراء القصد.

أخبار ذات صلة

حتى أنت يا بروتوس؟!
حراك شبابي ثقافي لافت.. وآخر خافت!
الأجيال السعودية.. من العصامية إلى التقنية الرقمية
فن الإقناع.. والتواصل الإنساني
;
عن الاحتراق الوظيفي!
سقطات الكلام.. وزلات اللسان
القطار.. في مدينة الجمال
يومان في باريس نجد
;
فن صناعة المحتوى الإعلامي
الإدارة بالثبات
أرقام الميزانية.. تثبت قوة الاقتصاد السعودي
ورود
;
حان دور (مؤتمر يالطا) جديد
الحضارة والتنمية
خط الجنوب وإجراء (مأمول)!
الشورى: مطالبة وباقي الاستجابة!!