كتاب

حيرة و(تيهان) حول (هياط) ابن كلثوم

أثارَ حديثُ النَّاقدِ والشَّاعرِ د. أحمد التيهاني عن عمرو ابن كلثوم، ومعلَّقتِهِ جدلًا ساخنًا، أخذَ أبعادًا مختلفةً، ولعلِّي هنَا أعرضُ رأيِي حولَ الموضوعِ بعدَ أنْ وردَ اسمِي في المقابلةِ، ونالنِي ما نالنِي من (بعضِ) الحُبِّ الذِي نالَ صديقِي معظمَهُ.

لكنِّي في البدءِ أظلُّ أتساءلُ: متَى سنخرجُ من جنونِ التعصُّبِ والتشنُّجِ في التعاملِ مع الآراءِ والأفكارِ؟ أحترمُ كلَّ مَن أبدَى رأيَهُ باحترامٍ لا تطاولَ فيهِ. لأنَّ هذَا جزءٌ من النقاشِ المُفيدِ المُثرِي. لكنِّي أفكِّرُ هنَا في الغوغاءِ من مُطفئِي الأنوارِ (وهذَا تفصيحٌ مخلٌّ للتعبيرِ الشعبيِّ الدارجِ عندنَا: أعنِي «مطفِّي النُّورِ»).


الدكتور أحمد التيهاني، ناقدٌ متخصصٌ في المجالِ، قضَى عمرَهُ في هذَا الحقلِ، كمَا أنَّه شاعرٌ معروفٌ، وناقدٌ مميِّزٌ، وخبيرٌ؛ خبيرٌ في الكتابةِ، وفي الإعلامِ، وفي قراءةِ النصوصِ. المجتمعاتُ الواعيةُ تعاملُ مَن هُم مثل التيهانيِّ بتقديرٍ يستحقُّهُ، تعاملهُ كإنسانٍ متخصصٍ مدركٍ لأبعادِ القضايَا التِي يتحدَّثُ عنهَا، وتحاورهُ على هذَا الأساسِ. كثيرٌ من الردودِ على مقابلةِ التيهانيِّ تجرِّدهُ من العلمِ، والمعرفةِ، وتتَّهمهُ بالانحيازِ. لِمَ كلُّ هذَا التشنُّجِ؟ هذَا سؤالٌ يظلُّ يحيِّرنِي، كلَّما طُرحَ رأيٌ مختلفٌ، أو دارَ سجالٌ فكريٌّ مَا حولَ قضيَّةٍ من القضايَا.

الآنَ وقدْ وصلتُ هنَا.. يبقَى السُّؤالُ: مَا رأيكَ يا عادل خميس في رأيِ صديقِكَ؟


الإجابةُ تعتمدُ على المنظورِ الذِي ينطلقُ منهُ النَّاقدُ. منظورُ صديقِي التيهانيِّ يتراوحُ في منطقةٍ بينَ الأخلاقيِّ والسوسيوثقافيِّ، وهذَا المنظورُ قريبٌ من منظورِ الغذَّاميِّ الذِي أعلنَ عنهُ منذُ ثلاثةِ عقودٍ تقريبًا.

أنَا -عادل خميس- لَا أتَّفقُ عمومًا معَ هذَا المنظورِ، رغمَ أنِّي أفهمُهُ، وأتَّفهمُ منطلقاتِهِ؛ لأنَّ الأمرَ لديَّ مرتبطٌ بجوهرِ التجربةِ الأدبيَّةِ. وهذَا الجوهرُ مركزيٌّ؛ لأنَّه (وجوديٌّ).

مَا المقصودُ هنَا؟ المقصودُ أنَّ وجودَ كلِّ إنسانٍ (بلْ كلِّ شيءٍ؛ سواءٌ كانَ عنصرًا، أو فكرةً، أو ظاهرةً مَا) يتحدَّد من خلالِ وظيفتِهِ في الوجودِ. الأبُ مثلًا، تتشكَّلُ أهميَّتهُ في العائلةِ من خلالِ وظيفتهِ كأبٍ لهذهِ العائلةِ، وفقًا لذلكَ فإنَّ جوهرَ التجربةِ الاجتماعيَّةِ (الأُسريَّةِ) يتحدَّدُ من خلالِ وظيفتِهِ كأبٍ لهذهِ العائلةِ، وهذَا يعنِي أنَّ وجودَ الأبِ، أيّ كينونة الأبِ، تتشكَّلُ من خلالِ التجربةِ الأبويَّةِ في السِّياقِ الأُسريِّ. وهذَا ينطبقُ على العناصرِ والظواهرِ الوجوديَّةِ المدرَكةِ في الغالبِ.

والنصُّ الأدبيُّ -بناءً على هذَا الرَّأي- نصُّ جماليٌّ في الأساسِ، وعلى الدَّوامِ. لا تُدركُ التجربةُ الأدبيَّةُ -حقَّ إدراكِهَا- خارجَ إطارِ الجماليَّةِ. وجوهرُ التجربةِ الأدبيَّةِ يعتمدُ دائمًا وفي كلِّ مراحلِهِ على البُعدِ الجماليِّ، وعلى الوظيفةِ الجماليَّةِ للنَّصِّ الأدبيِّ. وهذَا مَا يجعلُ الخطابَ الأدبيَّ مختلفًا عن باقِي الخطاباتِ.

الأدبُ ليسَ وثيقةً تاريخيَّةً أو اجتماعيَّةً. نكرِّرُ نحنُ -النَّقادَ- هذهِ المقولةَ كثيرًا، لكنَّ السَّؤالَ: مَا الذِي تعنيهِ المقولةُ حقًّا؟

إجابتِي عن هذَا السؤالِ هِي التِي تُحدِّدُ اختلافِي معَ طرحِ صديقِي التيهانيِّ، وطرحِ أستاذِي الغذَّاميِّ من قبلِهِ، ومَن ينحُو هذَا المنحَى في التَّعاملِ مع النصوصِ الأدبيَّةِ.

إنَّ الكذبَ جزءٌ أساسٌ ومتكرِّرٌ (ومطَّردٍ) في العمليَّةِ الأدبيَّةِ، وخصوصًا في الشِّعرِ. هذَا ينطبقُ على الشِّعرِ في كلِّ الثقافاتِ، وليسَ خاصًّا بالشِّعرِ العربيِّ كمَا تعلمُون. (تتبخرُ رُوحِي كلَّمَا رأيتُكِ...)، هذهِ العبارةُ قدْ تردُ في أيِّ شعرٍ، وفيهَا مقدارٌ من الكذبِ، لا نكادُ نختلفُ عليهِ.

مَا الذِي قدْ نختلفُ عليهِ؟

نختلفُ على التَّعاملِ معَ نوعِ الكذبِ الشعريِّ، أو طبيعتهِ، وهكذَا تتغيَّرُ رؤيةُ النَّاسِ تجاهَ الجماليَّاتِ، عبرَ الزَّمنِ.

إن حجم المبالغة في التعبير والتصوير (حجم الكذب بعبارة أخرى) يتسق مع معايير الجمالية، التي تؤسس جوهر التجربة الأدبية في العصر، وقد ظلت هذه النسبة تتراوح في الشعر العربي صعوداً وهبوطاً عبر العصور. وحتى اليوم تظل حالة التباين هذه في النسبة (أي الاتفاق على نسبة الكذب والمبالغة في القصيدة)، إنتاجاً وتلقياً.

ماذَا أقولُ؟ أقولُ إنَّ المبالغةَ في التَّعبيرِ (ومَا نسمِّيه الكذبَ) جزءٌ عضويٌّ من بنيةِ التجربةِ الشعريَّةِ عمومًا، (وهذَا رأيٌ تجريديٌّ ينطبقُ على الشِّعرِ في عمومِهِ زمانًا ومكانًا). أمَّا القيمةُ، أو منظومةُ القيمِ التِي يستثمرُهَا الشِّعرُ، ويستغلُّهَا، ويفجِّرُ طاقاتِهَا، فإنَّها اجتماعيَّةٌ ثقافيَّةٌ. نعمْ، هذَا مَا أقولُهُ: الهياطُ ممارسةٌ اجتماعيَّةٌ تكشفُ عن قيمةٍ معيَّنةٍ، لكنَّ هذهِ القيمةَ متشكِّلةٌ في بنيةِ المجتمعِ أساسًا، والتَّعاملُ معَ هذهِ القيمةَ، والتَّعبيرُ عنهَا بالممارساتِ المختلفةِ يعتمدُ على مستوَى تحضُّرِ الشُّعوبِ والمجتمعاتِ، هلْ أحتاجُ لإعادةِ رأيِ إبراهيم البليهي هنَا؟ لقدْ لخَّصَ لنَا كثيرًا ممَّا نحتاجُ فهمهُ وإدراكهُ منذُ عقودٍ. لكنَّنا لا نقرأُ، ولا نستفيدُ.. بلْ نهاجمُ، ونُقصِي، ونتشنَّجُ، ولا نُعطِي أمثالَ البليهيِّ والتيهانيِّ والغذَّاميِّ حقَّهُم للتَّأثيرِ والدخولِ في نقاشٍ مُفيدٍ ومُثمرٍ. وقدْ فعلنَا ذلكَ عبرَ التاريخِ باحترافيَّةٍ عجيبةٍ معَ ابن رشد، والفارابي، وطه حسين، ونصر أبو زيد.. والقائمةُ تطولُ.

الأدبُ خطابٌ كاشفٌ، وأهميَّتهُ في أنَّ لهُ طريقةً في الكشفِ تميِّزهُ عن بقيَّةِ الخطاباتِ (الوظيفة الجماليَّة)، لكنَّهُ يظلُّ خطابًا كاشفًا؛ أي أنَّ أقصَى مَا يفعلهُ الكشفُ عن قيمِ وسلوكيَّاتِ وأمراضٍ موجودةٍ أصلًا في المجتمعاتِ. أقولُ ما تقرؤُونَ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لِي ولَكُم!

أخبار ذات صلة

اللغة الشاعرة
مؤتمر الأردن.. دعماً لوحدة سوريا ومستقبلها
الجهات التنظيمية.. تدفع عجلة التنمية
الاستثمار في مدارس الحي
;
معرض جدة للكتاب.. حلَّة جديدة
«حركية الحرمين».. إخلاص وبرامج نوعية
دموع النهرين...!!
الجمال الهائل في #سياحة_حائل
;
عقيقة الكامخ في يوم العربيَّة
قُول المغربيَّة بعشرةٍ..!!
في رحاب اليوم العالمي للغة العربية
متحف للمهندس
;
وقت الضيافة من حق الضيوف!!
السرد بالتزييف.. باطل
عنف الأمثال وقناع الجَمال: قلق النقد ويقظة الناقد
مزايا مترو الرياض