كتاب
خيارات المسيَّر: ملكوت الشعر وجنونه
تاريخ النشر: 15 مايو 2024 23:09 KSA
في رمضانَ، انشغلَ أصدقاءُ الفيس بك بمحمد مسيَّر المباركِي، إثرَ منشورٍ نشرَهُ علي الشدوي عن مسيَّر، يمتدحُ فيهِ شاعريَّتهُ وتفرُّدَ تجربتِهِ الشعريَّة. أعادنِي المنشورُ إلى حفنةٍ مبعثرةٍ من ذكرياتِ الماضِي؛ حفنةٍ مكتظَّةٍ بعجائبَ المسيَّر، كمَا يعلمُ بعضكُم، وكمَا لا يعلمُ أكثركُم.
مطلعُ القرنِ قضينَا سويًّا قرابةَ عامَينِ في صحيفةِ «المدينة»، كنَّا قريبَينِ من بعضِنَا، لعدَّةِ أسبابٍ، أهمِّها سهرةُ الطبعةِ الثَّالثةِ، حيثُ كانَ يحلُو للمسيَّر أنْ يتجلَّى درويشًا مكتملَ الحضرةِ، ومجنونًا رسميَّ التَّعريفِ. (أعنِي تعريفَ فوكو الذِي يذهبُ إلى «أنَّ المجنونَ لا يكشفُ عن نفسِهِ من خلالِ كينونتِهِ، إلَّا أنَّه إذَا كانَ ثابتَ الوجودِ، فلأنَّهُ مختلفٌ...»).
الذِّكرياتُ مع المسيَّر كثيرةٌ جدًّا، ومختلفةٌ كذلكَ، معظمهَا كوميديٌّ بحتٌ، وبعضهَا موجعٌ، كانَ يطيبُ للمسيَّر حينَ يغلبنَا روتينُ العملِ القاتلِ، أنَ يصعدَ دونَ سابقِ إنذارٍ علَى الطاولةِ ويعلنُ: (إنَّني ومِن منبرِي هذَا أعلنُ لكُم...). مَا يأتِي بعدَ هذهِ العبارةُ لا قيمةَ لهُ؛ لأنَّ الضَّحكَ يكونُ قدْ بدأَ، الضَّحكُ والهجاءُ. مرَّة من المرَّاتِ صعدَ المنبرَ وبدأَ خطبتَهُ دونَ أنْ يعلمَ أنَّ نائبَ رئيسِ التَّحريرِ ينظرُ إليهِ من قسمِ التَّنفيذِ، وحينَ رآهُ انزلقَ مثلَ زئبقٍ هُلاميٍّ أسفلَ الطاولةِ، وظلَّ مختبئًا تحتَهَا مثلَ قطٍّ خائفٍ! ونحنُ.. نغرقُ في ضحكٍ لا ينتهِي.
عندِي للمسيَّر أربعُ مجموعاتٍ شعريَّةٍ، كلُّهَا نسخٌ مصوَّرةٌ. ولهذَا الأمرِ قصَّةٌ تستحقُّ أنْ تُروى. لكنْ ليسَ اليوم. أهمُّ مَا فيهَا أنِّي نجحتُ في استدراجهِ، بالنقودِ والسَّواليفِ ومشوارِ السيَّارةِ، حتَّى المكتبةِ، حيثُ حصلتُ علَى نسخٍ من دواوينهِ الأربعةِ. عناوينُ الدَّواوين تنبيكَ بوعورةِ المشوارِ: (الغيدُ الصناديدُ والرِّجالُ الحائضُونَ)، و(نبوءةٌ)، و(تماهِي مُنبَت) و(منسكٌ للسريرةِ في حرمِ الرَّملِ). كانَ مصوِّر المكتبةِ شابًّا يمنيًّا ملتزمًا، يوزِّع علينَا بحماسةٍ منقطعةِ النَّظيرِ نسخةً من معلَّقةِ الشيخِ عايض القرنِي (يَا أبَا منقاشِ أحسنتَ فزدْ.. فعلكُم يَا شيخُ فعلُ الأسدِ!!).
كلامُ الشَّدويِّ صحيحٌ؛ فيمَا يخصُّ تجربةِ المسيَّر الشعريَّةِ؛ وقفتُ مشدوهًا أمامَ أوَّلِ قصيدةٍ قرأتُهَا لهُ، نشرهَا في ملحق «الأربعاءِ»، وكانتْ شيئًا مختلفًا لمْ أعهدهُ، رغمَ تاريخِي الطَّويلِ مع الشَّعرِ. وحينَ صاحبتُ شعرَهُ أكثرَ عرفتُ أنَّنِي أمَامَ ظاهرةٍ شعريَّةٍ حقيقيَّةٍ. (لَا يعلمُ الكثيرُ أنِّي تأثرتُ بهِ كثيرًا في شعرِي. وقدْ كانَ يوجِّهنِي كثيرًا، وحاولتُ -قدرَ مَا استطعتُ- أنْ أستفيدَ. أقولُ: قدرَ مَا استطعتُ؛ (لأنَّ نصيحتَهُ المُطلَقةَ كانتْ أكبرَ من طاقتِي حينَهَا). المسيَّرُ حالةٌ شعريَّةٌ لافتةٌ، وتستحقُّ الدِّراسةَ والنَّظرَ، كمَا أنَّه حالةٌ ثقافيَّةٌ لا تقلُّ إدهاشًا وإثارةً للإعجابِ. جمعتُ قصائدَهُ المبعثرةَ أيضًا، معَ دواوينِهِ.. وقرَّرتُ أنْ أقدِّمَ عنهُ دراسةً خاصَّةً. أخذتُ أعمالَهُ مَعي إلى بريطانيَا، وصمَّمتُ هيكلَ الدِّراسةِ، وعدَّلتُ عليهِ عدَّةَ مرَّاتٍ. لكنَّهُ لَا يزالُ حتَّى اليوم معَ الدَّواوِين فِي كيسٍ أزرقَ.
لماذا لم أقدم على إنجاز الدراسة؟! نويتها كتاباً كاملاً. واحترت في المنطلق. تغريك في شعرية المسير مداخل كثيرة، ولا تعلم أيها أنسب. كنت أميل لمدخل معين، لا يخلو من خصوصية، ولا أزال. لكني لم أكتب حتى اليوم حرفاً واحداً. أشعر أني سأفعل يوماً ما..
أحيانًا أفتقدُ لجلساتِ النِّقاشِ المطولَّةِ، والمسيَّرُ بيننَا يبدُو خبيرَ الخبراءِ، وصاحبَ القولِ الفصلِ. كانَ مثقَّفًا.. وطريفًا.. وصاحبَ قلبٍ أبيضَ. وكانَ طفلًا أيضًا، بريئًا ومجنونًا؛ لفهمِ محمد مسيَّر، أعتقدُ أنَّنا نحتاجُ لاستيعابِ طبيعةِ جنونِهِ، وهِي طبيعةٌ تقتربُ من جنونِ نيتشه (انهيار فكرِهِ)، ذلكَ الذِي رَأَى فيهِ فوكو «الخاصيَّةَ التِي من خلالِهَا تنفتحُ أعمالُهُ علَى العالمِ الحديثِ». زوجتُهُ أُمُّ خالد كتبتْ مقدَّمةَ أحدِ دواوينهِ، وكانَ عنوانُ المقدَّمةِ كانَ (زوجِي العظيمُ مجنونًا).
تركَ المسيَّر الصحيفةَ، ولمْ نعدْ نلتقِي. فِي الجزائرِ، مطلعَ العام ٢٠٠٧ قابلتُ محمد المنصور، الشَّاعرَ اليمنيَّ الشَّهيرَ، واكتشفتُ أنَّه يستضيفُ المسيَّر في منزلِهِ.. اشتكَى منهُ المنصور، وأعطانِي رقمَهُ؛ اتَّصلتُ بهِ علَى الفورِ، تحمَّستُ للحديثِ معَ صديقِي؛ كانَ ردُّهُ باردًا جدًّا، كأنَّه لمْ يعرفْنِي، وحينَ تذكَّرنِي ابتسمَ، شعرتُ بابتسامةِ الطِّفلِ تخترقُ المدَى مِن اليمنِ حتَّى شمالِ إفريقيَا. كانَ المسيَّرُ فِي ملكوتِهِ.. شعرتُ بذلكَ أيضًا.
مطلعُ القرنِ قضينَا سويًّا قرابةَ عامَينِ في صحيفةِ «المدينة»، كنَّا قريبَينِ من بعضِنَا، لعدَّةِ أسبابٍ، أهمِّها سهرةُ الطبعةِ الثَّالثةِ، حيثُ كانَ يحلُو للمسيَّر أنْ يتجلَّى درويشًا مكتملَ الحضرةِ، ومجنونًا رسميَّ التَّعريفِ. (أعنِي تعريفَ فوكو الذِي يذهبُ إلى «أنَّ المجنونَ لا يكشفُ عن نفسِهِ من خلالِ كينونتِهِ، إلَّا أنَّه إذَا كانَ ثابتَ الوجودِ، فلأنَّهُ مختلفٌ...»).
الذِّكرياتُ مع المسيَّر كثيرةٌ جدًّا، ومختلفةٌ كذلكَ، معظمهَا كوميديٌّ بحتٌ، وبعضهَا موجعٌ، كانَ يطيبُ للمسيَّر حينَ يغلبنَا روتينُ العملِ القاتلِ، أنَ يصعدَ دونَ سابقِ إنذارٍ علَى الطاولةِ ويعلنُ: (إنَّني ومِن منبرِي هذَا أعلنُ لكُم...). مَا يأتِي بعدَ هذهِ العبارةُ لا قيمةَ لهُ؛ لأنَّ الضَّحكَ يكونُ قدْ بدأَ، الضَّحكُ والهجاءُ. مرَّة من المرَّاتِ صعدَ المنبرَ وبدأَ خطبتَهُ دونَ أنْ يعلمَ أنَّ نائبَ رئيسِ التَّحريرِ ينظرُ إليهِ من قسمِ التَّنفيذِ، وحينَ رآهُ انزلقَ مثلَ زئبقٍ هُلاميٍّ أسفلَ الطاولةِ، وظلَّ مختبئًا تحتَهَا مثلَ قطٍّ خائفٍ! ونحنُ.. نغرقُ في ضحكٍ لا ينتهِي.
عندِي للمسيَّر أربعُ مجموعاتٍ شعريَّةٍ، كلُّهَا نسخٌ مصوَّرةٌ. ولهذَا الأمرِ قصَّةٌ تستحقُّ أنْ تُروى. لكنْ ليسَ اليوم. أهمُّ مَا فيهَا أنِّي نجحتُ في استدراجهِ، بالنقودِ والسَّواليفِ ومشوارِ السيَّارةِ، حتَّى المكتبةِ، حيثُ حصلتُ علَى نسخٍ من دواوينهِ الأربعةِ. عناوينُ الدَّواوين تنبيكَ بوعورةِ المشوارِ: (الغيدُ الصناديدُ والرِّجالُ الحائضُونَ)، و(نبوءةٌ)، و(تماهِي مُنبَت) و(منسكٌ للسريرةِ في حرمِ الرَّملِ). كانَ مصوِّر المكتبةِ شابًّا يمنيًّا ملتزمًا، يوزِّع علينَا بحماسةٍ منقطعةِ النَّظيرِ نسخةً من معلَّقةِ الشيخِ عايض القرنِي (يَا أبَا منقاشِ أحسنتَ فزدْ.. فعلكُم يَا شيخُ فعلُ الأسدِ!!).
كلامُ الشَّدويِّ صحيحٌ؛ فيمَا يخصُّ تجربةِ المسيَّر الشعريَّةِ؛ وقفتُ مشدوهًا أمامَ أوَّلِ قصيدةٍ قرأتُهَا لهُ، نشرهَا في ملحق «الأربعاءِ»، وكانتْ شيئًا مختلفًا لمْ أعهدهُ، رغمَ تاريخِي الطَّويلِ مع الشَّعرِ. وحينَ صاحبتُ شعرَهُ أكثرَ عرفتُ أنَّنِي أمَامَ ظاهرةٍ شعريَّةٍ حقيقيَّةٍ. (لَا يعلمُ الكثيرُ أنِّي تأثرتُ بهِ كثيرًا في شعرِي. وقدْ كانَ يوجِّهنِي كثيرًا، وحاولتُ -قدرَ مَا استطعتُ- أنْ أستفيدَ. أقولُ: قدرَ مَا استطعتُ؛ (لأنَّ نصيحتَهُ المُطلَقةَ كانتْ أكبرَ من طاقتِي حينَهَا). المسيَّرُ حالةٌ شعريَّةٌ لافتةٌ، وتستحقُّ الدِّراسةَ والنَّظرَ، كمَا أنَّه حالةٌ ثقافيَّةٌ لا تقلُّ إدهاشًا وإثارةً للإعجابِ. جمعتُ قصائدَهُ المبعثرةَ أيضًا، معَ دواوينِهِ.. وقرَّرتُ أنْ أقدِّمَ عنهُ دراسةً خاصَّةً. أخذتُ أعمالَهُ مَعي إلى بريطانيَا، وصمَّمتُ هيكلَ الدِّراسةِ، وعدَّلتُ عليهِ عدَّةَ مرَّاتٍ. لكنَّهُ لَا يزالُ حتَّى اليوم معَ الدَّواوِين فِي كيسٍ أزرقَ.
لماذا لم أقدم على إنجاز الدراسة؟! نويتها كتاباً كاملاً. واحترت في المنطلق. تغريك في شعرية المسير مداخل كثيرة، ولا تعلم أيها أنسب. كنت أميل لمدخل معين، لا يخلو من خصوصية، ولا أزال. لكني لم أكتب حتى اليوم حرفاً واحداً. أشعر أني سأفعل يوماً ما..
أحيانًا أفتقدُ لجلساتِ النِّقاشِ المطولَّةِ، والمسيَّرُ بيننَا يبدُو خبيرَ الخبراءِ، وصاحبَ القولِ الفصلِ. كانَ مثقَّفًا.. وطريفًا.. وصاحبَ قلبٍ أبيضَ. وكانَ طفلًا أيضًا، بريئًا ومجنونًا؛ لفهمِ محمد مسيَّر، أعتقدُ أنَّنا نحتاجُ لاستيعابِ طبيعةِ جنونِهِ، وهِي طبيعةٌ تقتربُ من جنونِ نيتشه (انهيار فكرِهِ)، ذلكَ الذِي رَأَى فيهِ فوكو «الخاصيَّةَ التِي من خلالِهَا تنفتحُ أعمالُهُ علَى العالمِ الحديثِ». زوجتُهُ أُمُّ خالد كتبتْ مقدَّمةَ أحدِ دواوينهِ، وكانَ عنوانُ المقدَّمةِ كانَ (زوجِي العظيمُ مجنونًا).
تركَ المسيَّر الصحيفةَ، ولمْ نعدْ نلتقِي. فِي الجزائرِ، مطلعَ العام ٢٠٠٧ قابلتُ محمد المنصور، الشَّاعرَ اليمنيَّ الشَّهيرَ، واكتشفتُ أنَّه يستضيفُ المسيَّر في منزلِهِ.. اشتكَى منهُ المنصور، وأعطانِي رقمَهُ؛ اتَّصلتُ بهِ علَى الفورِ، تحمَّستُ للحديثِ معَ صديقِي؛ كانَ ردُّهُ باردًا جدًّا، كأنَّه لمْ يعرفْنِي، وحينَ تذكَّرنِي ابتسمَ، شعرتُ بابتسامةِ الطِّفلِ تخترقُ المدَى مِن اليمنِ حتَّى شمالِ إفريقيَا. كانَ المسيَّرُ فِي ملكوتِهِ.. شعرتُ بذلكَ أيضًا.