كم هو مُؤلم أن تُغادر – مُكرهاً – مرابع الصبا ، ومواطن الذكريات ، وكم هو مُحزن أن يكون المُتسبب وممارس الإبعاد القسري من ذوي القربى ، وكم هو مُفجع أن يتواصل الأذى – دون جريرة تُرتكب - حتى بعد اتخاذ قرار المغادرة والسير في طريق الهجرة ، ولكنها الحكمة الإلهية التي قصدت بزوغ فجر جديد على الإنسانية جمعاء ، ورسم ملامح مُغايرة لمستقبل يُخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ويؤسس لمرحلة انتقالية تتسلل من تراتيلها تعاليم منهج جديد للحياة يرتكز في معالجته للذات على الموازنة بين الجانب الروحي والمادي ، في الوقت الذي تمحورت كل الأنماط الوضعية السابقة له واللاحقة حول تعزيز الجانب المادي على حساب ربيبه الروحي ؛ مما أفقدها كينونتها وبالتالي انهيارها .
لقد أمعنت قريش في إيذاء رسول الرحمه – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – لأنه فقط دعاهم إلى توحيد الله ، وتَرْك وثنيتهم التي وصلت إليهم بالتواتر كابراً عن كابر ، دون أن يُعطوا لأنفسهم هامشاً من الوعي للتفكير بما وراء هذا الدين الجديد ، بقدر ما كان تضخم الأنا والعنت غير المُبرر من قبلهم هو سيد الموقف ، الأمر الذي حدا بهم إلى ممارسة أقسى ألوان العذاب النفسي معه – شخصياً – ومع أصحابه – عموماً – وهم صابرون محتسبون لعل الله يُحدث بعد ذلك أمراً ، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث – بشكل مُلفت – بل تعاظم الأمر بعد وفاة سنديه الأقوى عمه أبي طالب وزوجته الوفية خديجة - رضي الله عنها - ، ولكن أُولي العزم من الرسل يحملون رسالة ربانية يتحملون من أجل إيصالها المشاق الجسام ، ويُقدِّمون في سبيل نجاحها أرواحهم الزكية ، إيماناً منهم بأن واجبهم المُلقى على عواتقهم يتطلب هذا الجهد ، وإقراراً منهم بأن ما أُوحي إليهم من الله هو الحق الذي سيُغيِّر وجه الدنيا ، ويُشيع فيها الصلاح بعد أن تسيِّدها الفساد رُدهة من الزمن .
وعندما جاءت الإرسالية الإلهية من المولى – جل وعلا – آمرةً نبيه عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى المدينة بعد أن توافرت البيئة الخصبة فيها جراء قيام ستة من أهلها لقيهم الرسول صلى الله عليه وسلم عند العقبة بقبول دعوته لهم للإسلام ، ثم عادوا إلى المدينة فدعوا قومهم فأسلموا ، وانتشر الإسلام فيها ، ثم تلاها بيعة العقبة الأولى والثانية – وكانتا سراً – وبعد أن شعر عليه الصلاة والسلام بأن انطلاق الدعوة سيكون من المدينة أقوى أمر أصحابه بالهجرة إليها ، تمهيداً للحاق بهم ، وبالفعل انطلق وصديقه الصدوق أبو بكر – رضي الله عنه – إلى غار ثور ليكون نقطة التحول الأولى التي قدمت للعالم أجمع الإسلام كمنهج حياة ، وما إن وصل عليه الصلاة والسلام وصاحبه المدينة حتى استقبله أهلها الطيبون بالترحيب الحار والأهازيج المُعبِّرة ، فطلع البدر وفتق أستار الظلام ، ودك بقوة الإسلام إمبراطوريتي كسرى وقيصر ، وكان لله - سبحانه وتعالى - ما شاء في أرضه على يد هذا النبي الأمي العظيم - صلى الله عليه وسلم - .
إن قصة الهجرة النبوية الشريفة لحريٌ بنا تدارسها ، والوقوف على مفاصل الحكمة منها ، واستنباط الدروس النموذجية من دقائقها ؛ وأخذها نبراساً للأجيال ومرجعاً نيِّراً ينهلون من معينه أسباب فلاحهم ؛ لأنها تحمل في طياتها سِيرة عَطِرة لرسول وصحابته ترفعوا عن متاع الحياة الدنيا فارتقوا بأنفسهم ، وسمت أخلاقهم ، وتعالت همتهم ، وتوحَّد هدفهم ، وسادوا العالم من أقصاه إلى أقصاه ، واستطاعوا بقوة إيمانهم فرض المنهج الرباني ليكون هو البديل لكل الأنظمة الجاثمة على متن الزمن الغابر دون أن تُحدث أثراً يُذكر في تاريخ الإنسانية .
Zaer21@gmail.com
طلع البدر علينا
تاريخ النشر: 18 نوفمبر 2012 03:39 KSA
كم هو مُؤلم أن تُغادر – مُكرهاً – مرابع الصبا ، ومواطن الذكريات ، وكم هو مُحزن أن يكون المُتسبب وممارس الإبعاد القسري من ذوي القربى ، وكم هو مُفجع أن يتواصل الأذى – دون جريرة تُرتكب - حتى بعد اتخاذ قر
A A